الدين .. رسالة الحب والإيمان

يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي (1905-1973) في كتابه “الفكرة الافريقية الاسيوية في ضوء مؤتمر باندونج” عن حرب صفين عام38هجرية :

“ان المجتمع الاسلامي تعرض للاختيار والاختيار الحتم بين علي ومعاوية بين الحكم الديمقراطي في المدينة والحكم الاستبدادي في دمشق ولكن المجتمع الاسلامي ومع بالغ الاسف اختار الطريق الذي ادی به الی القابلیة للاستعمار ثم الاستعمار.

واثر هذه الحرب المدمرة التي راح ضحيتها زهاء سبعين الف قتيل والاف الجرحی والمعاقین افرزت فی النهایة ظهور امواج بشریة تطلق صراخها الهستیري :

“لا حكم الا لله” و في حقيقة الامر قد احدثوا الزلزال الذي سوف يهزّ العقيدة الدینیة في الصميم ونعني مسألة الايمان.

وقد انفلتت هذه الامواج (المتدينة) من الجوهر الديني وحقيقته تحاول استباحة العالم وصدرت فتوى تكفير لأول انسان عربي اعلن ايمانه بالرسالة الاسلامية.

ان المقاييس التي طرحها الخوارج قادت الى سلسلة من الانهيارات الفكرية وكان من الصعب ايقافها ذلك ان الظروف الاجتماعية والسياسية ادّت الى تراجع كبير وخطير للمبادئ الاسلامية او الى ما يمكن ان يطلق عليه وتسميته بالبدايات الخلاقة التي احدثتها الشرارة الروحية.

فلقد كان لتصدي الامويين المبكر لتيار الخوارج آثاراً مخربة في احداث حالة من الفوضى الفكرية.

فاذا كان الخوارج قد استخدموا اساليب ارهابية وقتلوا احد الصحابة وبقروا زوجته الحامل فان من تصدّى لهم فيما بعد هم الامويين وهم لا يقلون قسوة عن خصومهم من الخوارج اضافة الى انهم كانوا يمارسون التخريب الفكري الممنهج ولعل ذلك هو الذي دعا الامام علي الى ان يقترح عدم قتال الخوارج بعد الاشارة الى مواجهة النظام الاموي.

ومن خلال بعض الاحاديث النبوية يمكن التقاط اشارات حول ظهور تيار عنيف يتمسك بقشور الاسلام لا يتجاوزها ومن ثم يندفع كالسيل نحو التخريب الشامل للحياة.

ونكتفي بحديث واحد فقط وهو قوله [ص]: “يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم.1

وسنجد حديثاً يدعو الى التأمل برواية، الامام علي [ع] عن النبي [ص]: “يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البريّة يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم، لا يجاوز ايمانهم حناجرهم.2

وتتضمن الجملة الاخيرة من الحديث دعوة لتصفيتهم يعني غياب امكانية الحوار والتفاهم معهم [وذلك بعد اخلالهم بأمن المجتمع وانتهاك حقوقه].

وملامح هذا التيار باختصار:

ــ الفظاظة والقسوة3 [ومردها الى ان الايمان لا يتجاوز حناجرهم].

ــ روح العدوان المتأصّلة.

ــ السطحية في التفكير بل غياب عملية التفكير [يقرأون القران لا يتجاوز حناجرهم].

ــ التمسك بالقشور فقط [غياب الاصالة في التفكير].

ــ الاندفاع الاهوج في المواقف [يمرقون كما يمرق السهم].

ــ غياب صوت العقل [سفهاء الاحلام].

ــ استمراريتهم وظهورهم عبر فصول التاريخ وفي المناخات المساعدة.

ــ يمثلون الصورة المعكوسة والنقيض للمنابع الصافية لفكر اهل البيت [ع].

ــ انعدام الروح الانسانية [وهذا يمثل خلاصة شخصيتهم].

ــ سهولة انقيادهم من قبل جهات تستغلهم لتحقيق أهداف محددة.

ونحاول هنا ان نعود الى الجزء الاخير من الحديث النبوي الشريف: “لا يجاوز ايمانهم حناجرهم” لنجعل منه المدخل الثاني للموضوع لنتساءل عن مسألة الايمان: ان قناعتي في هذه المسألة هي ان الايمان ينهض على قدمين الاعتقاد بالله الخالق الرحمن الرحيم والعمل الصالح اضافة الى الاعتقاد باليوم الاخر ــ هذا الاعتقاد يجب ان يكون راسخاً ووجدانياً ويفجر النبع الانساني في الاعماق [الذين آمنوا وعملوا الصالحات].

من هنا ارى ان الايمان يقاس بالمضمون والمخزون الانساني في النفس جاء في الرسالة القشيرية .4

قال الاستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو العلم فكل علم هو معرفة وكل معرفة علم وكل عالم بالله تعالى عارف وكل عارف عالم.

المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدّق الله تعالى في معاملته ثم تنقى عن اخلاقه الرديئة وآفاته.

المعرفة توجب السكينة في القلب كما ان العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته. [الرسالة القشيرية].

جاء في نهج البلاغة: “اول الدين معرفته [الله] وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له.

وجاء في الاثر: “العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء”.

هل يمكننا ان الاقتراب من الدائرة اكثر اعني الاقتراب من الإيمان كفعل وكتحول ونحاول فهم ما يعنيه مصعب بن عمير عندما نفض يديه من كل شيء من اجل ما اعطاه محمد [ص].

ماذا منحك محمد [ص] لكي تتخلى عن الثروة وحياة الرغد؟

ــ محمد [ص] منحني السلام.

لماذا نهى النبي [ص] عن قتل ابي البختري بن هشام الذي سجلت له مواقف انسانية ابان فترة الحصار في شعب ابي طالب [معركة بدر الكبرى].

جاء في الاثر: هل الدين الا الحب. [الامام الباقر ع].

وقال الشاعر: ما دام قلبك فيه رحمة لأخ عان / فأنت امرءٌ في قلبك الله.6

وفي منهج النبي [ص] التأكيدي في بعض الاحاديث قال النبي [ص]: “أي عرى الايمان اوثق؟ ويأتي الجواب منه [ص]: الحب في الله.

ولا ينبغي لنا ان نتراجع خطوة الى الوراء امام ظاهرة الانتحار وقتل الآخرين لان قتل الأبرياء من فقراء واطفال ونساء لا يمكن تبريره بفعل يشبه في ظاهره الفعل الاستشهادي. [حوادث التفجير في بغداد].

وقد تحدث القرآن مبكراً جداً في الفترة المكية تحديداً وقبل تشكل المجتمع المدني [المدينة المنورة] عن الذين في قلوبهم مرض فكما ان القلب الذي هو مركز الايمان فانه ايضاً عرضة للمرض والاشارة هذه في سورة العنكبوت وكانت في مكة قبل ظهور تيار النفاق.

وفي كثير من الاحيان بل هو السائد في معظم الظروف ان الانسان يتلقى عقيدته الدينية من الوسط الذي يحيا فيه، فالبشر لا يعيشون حالة حي بن يقظان الذي وجد نفسه في الجزيرة وحيداً.

ولهذا فان معتقدات شخص ما مستمدة في الغالب من المحيط الذي يعيش فيه فهو يتنفس الافكار التي تشكل ثقافة مجتمع ما، يعني انه لا يتلقى العقيدة من القرآن والسنة النبوية.

ولهذا فهو يشبه من هذه الناحية اللغة التي يتحدث بها الانسان لأنه يتلقاها مع اولى رشفات اللبن.

من هنا فان العقيدة الدينية التي تتشكل في محيط منسجم تنتج عن ثقافة منسجمة والعكس صحيح ايضاً فبقدر ما تكون للعقائد الدينية جذور راسخة في العمق فان حالات النزاع الطائفي تتراجع فتكون ظاهرة التعدد المذهبي مدعاة للثراء الفكري والحوار بسبب المشتركات الاساسية التي تكون آصرة جذب وتوحد اقوى من عوامل الطرد والاقصاء5.

وقد جاء في الاثر: “الايمان ما وقر في القلب وصدقه العمل”.

فالإيمان ليس قولاً وفعلاً فقط وانما هو ابعد من ذلك ونذكر بالإشارة الى المعرفة والعلم التي تؤدي الى حالة من السكينة وتنامي الحس الانساني.

ولهذا فان ايمان أبي سفيان على سبيل المثال وقد حصل في ظروف معروفة لم يفرز او يؤدي الى تصريح او موقف ينسجم مع ذلك التحول بل العكس في معركة حنين وبدء المباغتة وتصور البعض هزيمة المسلمين قال اعل هبل! وفي خلافة عثمان: فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار وانتقل هذا المسلك الى ابنه معاوية: [حواره مع المغيرة] ثم انتقل الى يزيد [لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل] ولكن هذا الانكار سوف ينتهي فجأة في معاوية الثاني ما يفسر منهج الانبياء في التعامل مع اقوامهم والامل الكبير بإيمانهم او ايمان الاجيال التي تليهم وفي مقابل هذا المسار هناك مسار اخر يبدأ بأبي طالب مؤمن قريش فبالرغم من غياب السند التاريخي حول نطقه بالشهادة بصيغتها التي نطق بها ابو سفيان لكننا نجد اشارات قوية حول ايمانه العميق من خلال اشعاره ومواقفه ودفاعه عن رسالة النبي [ص] هذا الايمان الذي انتقل الى ابنه علي [ع] القائل: “لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً و [اول الدين معرفته] ثم ينتقل الى الحسين [ع] الذي يقول: “كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى نكون الآثار هي التي توصل اليك، عميت عين لا تراك”.

أو “ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟!” وينتقل الى ابنه علي السجاد [ع] ليترك وراءه ميراثاً خالداً في اناشيد الايمان [الصحيفة السجادية] ورسالة الحقوق كاثر نابع من الايمان.

يذكر التاريخ [تاريخ الطبري] ان ابا سفيان التقى هرقل وذلك بعد حرب بدر واحد وكان الاخير يحاول تكوين صورة عن النبي [ص] فكان احد أسئلته: هل يغدر؟ وقد اضطر ابو سفيان الى الاجابة الصادقة: انه لا يغدر ابداً.

وعن الامام [ع]: “لا ايمان لغادر” بينما نرى ابا سفيان وبدل ان يرسل قيمة الفداء لابنه الاسير ينتهك القانون الاخلاقي والديني لمكة التي تمنع اعتراض الحجاج قام ابو سفيان باختطاف شيخ مسلم جاء معتمراَ مقابل اطلاق ابنه الاسير!!

ولهذا لم يحدث التحول الذي حدث في قلب بلال في اعماق ابي سفيان لدى اعلانه الشهادة عشية فتح مكة.

لقد كان في اعماقه شيء لا انساني هو مزيج من الشر والعنصرية والانانية والتعصب ومجموعها عبر عنه القرآن “في قلوبهم مرض”.

ومن الضروري ان نتوقف عند نقطة هامة وهي اعتناق الشخص للفكرة وهي تشبه في طبعها ومراحلها مسألة الايمان انها ايمان بالمعنى العمومي للكلمة.

وقبل الاستطراد في هذه النقطة علينا استعادة ما ذكرنا حول الايمان الذي تسبقه المعرفة والعلم والذي يؤدي الى حالة من السكينة وتنامي الاحاسيس الانسانية [الذين آمنوا وعملوا الصالحات] [وقلبه مطمئن بالإيمان].

عند اعتناق الانسان لفكرة ما ذات طابع ديني خاصة فان ذلك يحدث متزامناً ومواكباً لحالة من الاضطراب العقلي والهياج العاطفي والحماس الشديد والاندفاع.

ولهذا فليس هناك ما هو اخطر من انسان غبي [جاهل] يعتنق فكرة.

اننا نشهد في هكذا حالة نوعاً من الايمان بالغيب وهو لا يعدو في حقيقته ان يكون تهويمات في عالم خارج نطاق الوعي ومساحة خارج نفوذ العقل.

ونذكر هنا بان كل شيء في شخصية الانسان في مرحلة الشباب تكون قد تشكل بطريقة ما من خلال التقاليد والعادات والنظم السياسية والبناء الاجتماعي.

ولهذا فان من غير المنطقي تماماً فصل السياسة عن الدين والدين عن الحياة الاجتماعية.

فعلى سبيل المثال اننا عندما نقف امام تيار يشبه تيار الخوارج من حيث المسلك فإننا لا نقف امام عقيدة دينية بقدر ما نحن نقف في مواجهة ثقافة انتجت هذا التيار.

ولهذا فان الزرقاوي على سبيل المثال انما هو اعادة انتاج لشخصية ذي الثدية او شخصية اخرى على غرارها من قبيل البربهاري7.

ربما من المفيد ان نتحدث عن الموضوع من زاوية اخرى، منطلقين مما ورد في الحديث الشريف: “حدثاء الاسنان”.

يلاحظ ان موجات الارهاب التي اجتاحت العراق [على سبيل المثال] نفذها شبان يعتقدون بانهم سوف يعانقون الحور العين بعد [استشهادهم] او سوف يتناولون غداءهم مع النبي [ص].

تؤكد الدراسات النفسية ان حالات التحول الديني تحدث في الغالب في اوائل البلوغ بين السادسة عشر والثامنة عشر وهي السن الذي تنضج فيه غريزة الجنس نضجاً مفاجئاً، اضافة الى ان ما يحصل من تحول له شبه كبير بالوقوع في الغرام.

ان خيالات المراهقة والميل الى العزلة لدى بعض الشباب يصحبه تحليق في الاوهام على اجنحة الخيال وانها تطورات قد تبدو هادئة لكنها في الحقيقة سلسلة من العمليات قد تؤدي الى ظهور نتيجة مفاجئة كالحب من اول نظرة فيتعلق الشاب بفتاة كونتها اجهزة الخيال في ذهنه فإذا رأى ما يشبه هذه الصورة تعلق بها.

ومن الممكن ان خيال بعض الشباب [وهذا تابع الى نوع المحيط والبيئة والثقافة التي يعيش فيها] قد يجنح الى تصور الحوريات في الجنة وحينئذ ما ان يصادف من يتحدث عن الجنة والطريق اليها اذا به يعتنق فكرة الاستشهاد لتحقيق لقائه ب(الحور العين)

 بعبارة اخرى ان هكذا تحول هو في الحقيقة تصور في العثور على حل لعقدة نفسية اشبه ما تكون بالعثور على مفتاح ناسب فجأة قفلاً قديماً8.

وما دمنا وصلنا في الحديث الى العقدة النفسية فلا باس من الاشارة الى وجود حالات مرضية تقود المريض الى العدوان واشير هنا الى ما قاله احد الاطباء النفسانيين في التلفزيون العراقي عن حالة شاب كان يتصور ان والدته تكتب عنه تقارير تؤدي الى اعدامه فقتلها وتحدث الطبيب عن ان صدام مصاب بهذا المرض تجاه الشعب العراقي.

وعادة ما ينزع هؤلاء المصابون بهذه العقدة الى الظهور امام الملأ واجتذاب الانظار بسوء السلوك.

ونحن نتذكر كيف سرّب الزرقاوي مجموعة من الافلام عن نفسه تصوّره كما يحب وهذا ما يفسر سيطرة صدام على التلفزيون واقامة التماثيل والجداريات.

وتصرفاته عندما يشعر بوجود كاميرا [في فترة ما بعد السقوط واثناء المحاكمة].

ان الايمان الحقيقي يفرز مشاعر وحدوية وروح اخوية [انما المؤمنون اخوة] ولهذا يجب ان تتركز هذه المشاعر اكثر في الدين الواحد حيث نفترض وجود نزعات اخوية وميول توحدية بسبب المشتركات الاساسية ولذا فان ظهور حالة من الصراع الطائفي يعني انطفاء شعلة الايمان الحقيقي الذي هو جوهر الدين والمذهب. وبسبب هذا الانطفاء تقفر مجموعة من افكار هامشية جداً لتحل محلّ الجوهر الديني وتصبح بعض الامور الجانبية اساسية وجوهرية.

وانطفاء الايمان الحقيقي هو السبب في تراجع الافكار والمشاعر الانسانية وسيطرة الاهواء والانانية والنرجسية.

يرسم اميل زولا رائد المدرسة الواقعية في روايته ” الذئب البشري” مسار البطل الذي يأبى في بداية أمره مضاجعة امرأة على فراش الزوجية ثم ينتهي الامر وبعد سلسلة من الاخطاء الى ان يمارس الجريمة بشكل منظم وعادي.

ان الخطيئة الاولى تقود الى الثانية ثم الى الثالثة.. الى ان يتحول الانسان الى ذئب بشري يقول افلاطون:” اذا ذاق المرء قطعة من لحم الانسان تحول الى ذئب” “ومن يقتل الناس ظلماً وعدواناً ويذق بلسان وفم دنسين دماء اهله ويشردهم ويقتلهم.. فمن المحتم ان يفضي به الامر الى ان يصبح طاغية ويتحول الى ذئب”9.

الحكمة .. اشراقة الوعي

تتطلع ” دار الحكمة الكندية” من خلال مؤسسها الدكتور زين العابدين الحسيني الشهرستاني الى بث روح الوعي واعتماد منهج الحوار بين الثقافات واثارة الاسئلة والاستفهامات ذلك ان الاستفهامات تدل على وعي المجتمع وعمق ادراكه لواقعه ومشكلاته، وهي حالة تجلي حواري بين العقل والواقع بغية الاصلاح وترشيد حركة المجتمع باتجاه محدد .

كما ان الثقافة ليست انتاج فكري بقدر ماهي صيرورة عميقة اعمق بكثير من النظريات التي غالبا ما تبقى في السطح الى ان تتسنى لها فرصة الغوص في روح المجتمع وتفاعلاته.

والوعي هو حصيلة الثقافة وهو القوة الفاعلة في تطورها وتقدمها، كما ان الوعي الثقافي ليس حكرا على ذوي الانتاج الثقافي والعطاء الفكري، ولكنه يمتد ليشمل المتلقي من خلال إدراكه لذلك العطاء ولهذا فإن هناك حاجة مستمرة للإبداع.

كما ان الحوار هو الخيار الوحيد حتى لو لم يسفر عن نتائج؛ لأنه يحرك المناخ الثقافي بما يوفر اسباب استمرار الحياة في الحركة الحضارية للجيل الراهن والاجيال القادمة.

دور المثقف

والمثقفون يمتلكون القدرة على الفهم والادراك بما يمتلكونه من رصيد معرفي وبما يتمتعون به من ارتباط وثيق بالواقع.

ان كل التيارات والتوجهات السياسية هي في الحقيقة تيارات فكرية وثقافية حيث دور المثقف دور حيوي وذلك لقربه من الواقع بما يؤهله الى قراءة موضوعية شرط شعوره بالمسؤولية وابتعاده عن الاحكام المسبقة والمصادرات كما انه يفقد وزنه النوعي في دولة لا تعيش حالة المؤسسات ويتحول المثقف الى خطر في حالة انحيازه للسلطة وحينئذ تتحول سكين المطبخ الى اداة للجريمة، ولهذا یتوجب الحدیث عن امن ثقافي .

ان ما يحصل من امتهان للشعوب انما مهد له امتهان للمثقف سواء من قبل السلطة او حتى من قبل المجتمع نفسه، ومن هنا فان فشل المثقف سوف ينعكس على اخفاق المجتمع حيث يفقد المثقف وزنه النوعي في دولة لا تعيش حالة المؤسسات خاصة امام سعي السلطة المحموم في اخضاع جميع القوى والهيمنة عليها.

يجب ان نعترف انه لا يوجد شعب من دون قيم ايجابية او سلبية ومن هنا فان اول ما يتوجب القيام به هو التأسيس للغة مشتركة حتى يمكن الاعداد الى ارضية صلبة للحوار والتفاهم وهنا يأتي دور المثقف.

[جاء في الاساطير العراقية ان اهل بابل القديمة ارادوا بناء برج لبلوغ السماء فغضبت الالهة عليهم وبذرت بينهم الشقاق بإدخال تعددية الالسن ولم يعد التفاهم بينهم ممكناً فتخاصموا وتفرقوا].

برج بابل دلالة على الفوضى والضياع التي تصيب الشعوب جرّاء غياب لغة الحوار.

الثقافة الاسلامية تنطوي على مضمون اخلاقي كبير في حب الخير للإنسانية. ولذا فان الكراهية والحقد والطاقة السلبية ازاء الاخر مهما يكن غير نابعة من صميم القيم الاسلامية حتى قيم الجهاد هي قيم دفاعية اساساً ليس فيها روح عدوانية [فتح مكة نموذجاً].

ولهذا ينبغي تسمية الاشياء بأسمائها الحقيقية والا تخدعنا المظاهر والشعارات واللافتات والازياء فالذين يتحدثون مثلاً باسم القيم الاسلامية ثم نراهم يتهافتون على المناصب والاموال انما يتبنون قيما اجتماعية نابعة من ثقافة ليست من الاسلام في شيء لان كل واقع اجتماعي هو قيمة ثقافية خرجت الى حيز التنفيذ.

اننا بحاجة الى الوعي ولكن الوعي ليس الا حصيلة للثقافة، وعندما نرى بلداً يمر بأزمة فهو نتيجة لامتهان المثقف من قبل السلطة ومن قبل المجتمع [وصل امتهان المعلم في بلد عريق كالعراق ادنى مستوى بعد الحصار ثم تلاه الاستاذ الجامعي الذي لم يستعد احترامه وقيمته حتى الان].

ان اية خطوات للإصلاح يجب ان يواكبها ويعقبها الى مديات بعيدة جهد اخلاقي وتربوي مستمرين وهو جهد ثقافي باعتبار ان الثقافة هي فكر نابض بالحياة وغير قابل للنسيان.

ولهذا تمكنت المانيا من اعادة بناء ما دمرته الحرب بسرعة لان هناك اشياء لم تهدمها الحرب وهي ثقافة المجتمع الالماني وقيمه الاجتماعية، ان ما حصل في العراق على سبيل المثال هو تدمير للثقافة ونجم عن ذلك اننا فقدنا التعريفات الصحيحة للمفاهيم ومداليلها والأخطر من ذلك اكتساب تلك المفاهيم تعاريف مشوهة ومقلوبة.

عندما لا تدفع فضيحة سرقة او اختلاس لدى مسؤول في الدولة الى الشعور بالعار وتقديم الاستقالة كما يحصل في بلدان اخرى فهذا يعني ان هناك ثقافة تسوغ للاختلاس والخيانة وحتى المتاجرة بالثروات الوطنية والمغامرة بمصير الوطن.

لهذا ينبغي التأكيد على لغة الحوار الواحدة والبدء بالحوار تحت كل الظروف لان الحوار هو الخيار الوحيد حتى اذا لم يسفر عن نتائج منظورة لأنه يحرك المناخ الثقافي بما يوفر اسباب تداوم الحياة الاجتماعية ونحاول هنا الاشارة فقط الى ما يمكن فعله في هذا المضمار بشرط تفعيل وزارة الثقافة وتامين استقلالها عن الاتجاهات والتوجهات الفئوية والحزبية وتخصيص ميزانية تساعد على تنفيذ برامجها وخططها.

خطوات باختصار

ــ التثقيف على الانتماء الانساني ومحاربة الجنوح القومي العنصري الذي يتجاوز حالة الاعتزاز بالأصل الى الشعور بالفوقية والتعالي.

ــ التشجيع على الفنون الجميلة والتركيز على المهرجانات الشعرية واقامة المسابقات الادبية في جميع المدن العراقية وانتخاب موضوعات انسانية تعزز من روح الاخوة والتعارف والحوار.

ــ انشاء مراكز ثقافية تؤدي دور التقريب وتفعيل حركة اصدار الكتب وبخاصة الكراسات التي تقوم بعمل الكشاف الضوئي.

ــ فصل العقائد عن التاريخ واعادة رسم الرموز الدينية وتعميق سياسة الدمج الطائفي التي ستكون ردّاً على ما قام به الارهاب من اعمال ادت الى هجرات بين المدن وبين الاحياء داخل المدينة الواحدة وتعتبر اكبر انجاز حققه الذين يريدون التمهيد لتقسيم الوطن الواحد.

وآليات هذه السياسة متشعبة وكثير من خلال توزيع الاراضي بطريقة تحقق ذلك، وفي البعثات الدراسية والسفرات المدرسية وتوزيع العملية التعليمية والتربوية وترشيدها بالاتجاه الذي يحقق الهدف المنشود [وذلك من خلال استراتيجية مدروسة في التعيينات على سبيل المثال].

ــ التأسيس لمفهوم جديد عن الايمان ينطوي على دلالة واحدة فقط بحيث يكون مرادفاً للإنسانية والمحبة والخير والجمال وربطه الابدي بالعمل الصالح.

وبالعكس لا تكون للطائفية سوى دلالات على الشرك والوثنية والعنصرية وكل الحالات اللاإنسانية.

ــ تقديم ابطال انسانيين ليكونوا مصدراً للإلهام وارساء مقاييس لا تجعل من المتطرف أيا كان توجهه بطلاً ولا رمزا بل تجعل من جميع المتطرفين حتی في حالة تحاربهم متساويين ومتشابهين من خلال توحد المضمون اللاأخلاقي لديهم وتشابه البناء النفسي في شخصيتهم.

ــ اسناد دور اساسي لوزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي.

ان تغيير المناهج الدراسية في كافة المراحل التعليمية والعملية في ضوء ما ورد آنفاً سوف يكفل على المدى البعيد ميلاد حالة من الانسجام والتعايش الاخوي البناء بين جميع شعوب العالم.


1 البخاري / كتاب فضائل القران.

2 البخاري / كتاب المناقب.

3 وصل بهم الامر ان يوافق سجناؤهم في البصرة على اقتراح عبيد الله بن زياد في انقسامهم الى فريقين والتقاتل حيث يطلق سراح من يقتل رفيق دربه!

4 ص 141 دار الكتاب العربي لبنان.

5 ايليا ابو ماضي.

6 لا نريد ان نقفز الى هذه النتيجة وهي وحدة المشاعر الدينية وتركزها اكثر داخل الدين الواحد يعني داخل المنظومة المذهبية والطائفية يجب ان ينتج نزعات اخوية تجاه الاخر نزعات مفعمة بالإنسانية لان المضمون الديني بجوهره الايماني الحقيقي يجب ان يتضمن ارقى الافكار الانسانية والمشاعر النبيلة والميل نحو التسامي بعيداً عن الانحطاط والعدوانية.

7 فتنة الحنابلة في بغداد سنة 324 وبعدها فجرها البربهاري وهو شخصية تتسم بالسطحية والعنف اشعل فتنة طائفية واعلن تكفيره للشيعة واغلب الظن ان التكفير شمل الشافعية ايضاً ولم تتوقف الاضطرابات الا بعد تدخل الدولة وارتفاع الاسعار بشكل جنوني واجتياح الوباء العاصمة بغداد.

8 يريدون الوصول الى الجنة بأقصر الطرق “عبد الرحمن الراشد جريدة الشرق الاوسط”.

9 الجمهورية ص 466 بالاستناد الى كتاب الطاغية / عبد الفتاح امام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى