الإمام محمد بن الحسن المهدي
المحتويات
- البِشارةُ
- سامرَّاءُ 234 هـ ـ 838 م
- القسطنطينيةُ 253 هـ /867 م
- سَامُرَّاء 253 هـ /867 م
- سامُرَّاء في اليَوْم التَّالي
- سامُرَّاء 254 هـ / 868 م
- عرسٌ هادئ
- رحيلُ الإمامِ الهادي (ع)
- النَّاقُوسُ
- شعبان 256 هـ / 780 م
- مَوْلدُ الشَّمسِ
- صَلاةُ الإسْتِسْقَاء
- الرَّحيل
- الشَّمسُ وَراءَ السُّحبِ
- السُّفَراء
- الهجومُ الأخيرُ على دَارِ الإمامِ سنة 275 هـ / 888 م
- 9 شعبان سنة 329 هـ/ حزيران سنة 941 م
هُوَ مُحَمَّدٌ بنُ الحَسَنِ العَسْكَريِّ، بنُ عَليٍّ الهَادي (ع)، مِنْ ذُريّةِ الإمامِ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ (ع)، وفاطمةَ الزَّهراءِ بنتِ النّبيِّ (ص).
أُمُّهُ السّيدةُ مَليكةُ، وهي حَفيدةُ قَيْصَرَ، وأُمُّها مِنْ نَسْلِ شمعونَ، أَحدِ حَواريِّي المَسيحِ عيسى بن مريمَ (ع).
الأبُ عَربيٌّ هاشِميٌّ حجازيُّ، وُلِدَ في المدينةِ المنوَّرةِ، والأُمُّ نَصْرانيَّةٌ مَسيحيَّةٌ وأَميرةٌ روميّةٌ، وُلِدَتْ في القِسْطَنْطِينيَّةِ.
في عامِ 254هـ/ 868م، التقى الإمامُ الحسنُ العسكريُّ السَّيدةَ مَليكةَ في مدينةِ سامرَّاءَ، وتَمَّ الزَّواجُ في مراسمَ هادئةٍ جدًّا. وفي عامِ 256 هـ، تَحققَتْ نُبوءَةُ الرّسولِ الأَكْرمِ2 في ميلادِ المهديِّ الذي يَمْلأُ الأرضَ عَدْلاً بعدَ أن مُلِئَتْ ظُلمًا وجورًا.
لكنْ، كيفَ جاءَ الإمامُ الحسنُ العسكريُّ إلى سامرَّاءَ؟ وكَيْفَ جَاءَتِ السّيِّدةُ مَليكةُ، تلكَ الفتاةُ الطَّاهرةُ، إلى بغدادَ، ثمَّ إلى سامرَّاء، هذا ما سنعرفُهُ جَميعاً في هذا الكتابِ، فتعَالوا نُتابِعْ هذهِ الروايةَ منَ البِدايةِ.
البِشارةُ
كانَ سيِّدُنا محمّدٌ2 جَالساً معَ أصحابهِ، في المَسْجدِ، وكانَتِ الشَّمسُ تُرسِلُ أشعَّتَها من بينِ سُعُفِ النَّخيلِ. حَدَّثَ النَّبيُّ (ص) أصحابَهُ عمَّا سيقعُ في مُسْتقبَلِ البشريَّةِ من الظُّلمِ والعُدْوانِ في آخرِ الزّمانِ. قال: النّاسُ، في ذلكَ الزّمانِ، سَوْفَ يبتعدونَ عن تعاليمِ السَّماءِ، وَيَملأُونَ الأرضَ فَساداً وَظُلماً، ثُمَّ يَأْذنُ اللهُ بظهورِ رَجُلٍ منْ أهلِ بَيتي، من ذُريّةِ ابنتي فاطمةَ، وهوَ المهديُّ.
سيقومُ الإمامُ المهديُّ بنشرِ العَدالةِ في كلِّ أنحاءِ العالم، ويتحقَّق قولُ اللهِ تباركَ وتَعالى: {هوَ الّذي أَرْسَلَ رسولَهُ بالهُدى ودِيْنِ الحقِّ ليُظهرَهُ على الدّينِ كلِّه}([1]).
الكَثيرُون نَسَوا بِشارةَ النّبيِّ (ص)، ولكنَّ الأئمَّةَ منْ أَهْلِ بيتِهِ (ع) كانُوا يبلِّغونَ بِشَارتَه إلى النَّاس، كلٌّ في عصرِهِ.
الإمَامُ عليٌّ (ع) حدَّثَ أهلَ عصرِهِ قائلاً: «المهديُّ منّا أهلَ البيتِ يَظْهَرُ في آخرِ الزّمانِ».
وقالَتِ السّيّدةُ فاطمةُ الزَّهراءُ (ع): «قالَ لي رسولُ اللهِ: المهديُّ منْ ذُرّيةِ ولدِكِ الحُسينِ»([2]).
وَهكذا كانَ الأئمَّةُ يتوارثونَ هذِهِ البِشَارةَ، وَيبلِّغُونَها إلى المسلمينَ جِيلاً بعدَ جيلٍ.
وانْتشرَ حديثٌ نبويٌّ شريفٌ بَيْنَ النّاسِ، رواه التّابعِيُّ الشّهيدُ سعيدٌ بنُ جُبَير عنْ عبدِ الله بنِ عبّاس عنِ النّبيِّ (ص) قالَ: «لَوْ لمْ يبقَ منَ الدُّنيا إلاَّ يَوْمٌ واحدٌ، لطوَّلَ اللهُ ذلكَ اليومَ حتّى يخرجَ وَلدي المهديُّ، فينزلُ روحُ الله عيسى بنُ مريمَ فيصلّي خلفَهُ، وتُشْرِقَ الأرضُ بنورِ ربِّها».
سامرَّاءُ 234 هـ ـ 838 م
نحنُ، الآنَ، في مدينةِ سَامرَّاءَ، وقدْ جاءَ إلى الحُكْمِ طاغيةٌ مسْتَبِدٌّ هو جعفرٌ المتوكِّلُ، وكانَ هذا الحاكِمُ يحقدُ على أهلِ البيتِ (ع). لهذا أمرَ بتدميرِ مَرْقَدِ سيّدِنا الحُسينِ (ع) في كربلاءَ، وفتحَ مِياهَ نهرِ الفُراتِ لتُغرقَ المنطقةَ([3]). كما أمرَ باستدعاءِ الإمامِ عليٍّ الهادي (ع) منَ المدينةِ المنوَّرةِ إلى العاصمةِ سامرّاءَ، ليكونَ تحتَ المرَاقَبةِ([4]).
عندَما وصلَ الإمامُ الهادي إلى سامرّاءَ، قامَ بشراءِ قصرٍ كَبِيرٍ يَقَعُ في «دَرْبِ الحصا» مَسَاحتُه تُقدَّر بـ (1600م2)([5]). وقد اشترى الإمامُ هذا القصرَ الكبيرَ منْ مُهندسٍ مَسيحيٍّ يُدعى «دليلُ بنُ يعقوبَ النّصراني».
وَكانَتِ القصورُ في سامرّاءَ تُبنى وفقَ الخرائطِ الرّومانيةِ؛ حيثُ يتمُّ تجهيزُها بسراديبَ وأنفاقٍ وقنواتٍ جوفيّةٍ، تُنقَلُ إليها المياهُ من نهرِ دِجْلَة؛ وقد بلغَ طولُ إحدى القنواتِ الجوفيّةِ 40كم!
وكانَ المسجدُ الجامِعُ، في سامرَّاءَ، مجهَّزاً بنوافير للمياه دائمةِ العَمَلِ([6])، وكانَ المتوكِّلُ مُوْلَعاً ببناءِ القصورِ الفخمة، وقد أنفقَ من خزينةِ الدّولةِ ملايينَ الدّنانيرِ الذّهبيةِ في سَبيلِ ذلك.
في عام 244هـ ـ 848م، قامَ المتوكّلُ ببناءِ قصرِ «الجَعْفريِّ»، وقد سُمِّيَ بهذا الاسمِ لأنَّ اسمَ المتوكِّل هو جعفرُ، والقصرُ يقعُ شمالَ سامرّاءَ على مسافةِ أربعةِ أميالٍ عربيةٍ (الميلُ العربيُّ = 2كم).
أرادَ المتوكّلُ تأسيسَ مدينةٍ جديدةٍ بِاسْمِ المُتوكِّلِيَّة، لهذا أمرَ دليلَ بنَ يعقوبَ النّصرانيِّ بالإشرافِ على مشروعِ شقِّ فرعٍ من دِجْلةَ يدورُ حول قصرِهِ، لِتغذيةِ المَدينةِ الجَديدةِ، ومَدِّها بالمياهِ([7]).
وَوَضَعَ المتوكّلُ تحتَ تصرُّفِ المهندسِ ميزانيَّةً مفتوحةً، فاستَخْدَم هذا اثني عَشَر ألفَ عاملٍ لإنْجَاز هذا المشرُوعِ الكبيرِ.
وقدْ ظهرَ أنَّ المشروعَ كانَ فاشلاً، من النّاحيةِ الهندسيّةِ، ولكنَّ دليلَ بنَ يعقوبَ لم يكنْ يستطيعُ مصارحةَ الطّاغيةِ بذلك خَوْفاً من انتقامه([8]).
وزَّعَ المتوكّلُ بعضَ قطعِ الأراضي في المدينةِ الجديدةِ على الشّخصياتِ المرموقةِ في الدّولةِ، وأمرَهم بالبناءِ فيها، كانَ يريدُهم أن يكونوا تحتَ المراقبةِ. منْ بينَ الّذين أمرَهم بالبناءِ الإمامُ عليٌّ الهادي (ع)، لكنَّ الإمامَ رفضَ ذلكَ غَيْرَ مرّةٍ([9]).
وَكانَ الجواسيسُ ينقلون إلى المتوكّلِ تقاريرَ عن وُجُودِ أسلحةٍ وأموالٍ في دارِ الإمامِ، لهذا قامَتْ قوّاتٌ منَ الشُّرطةِ، غَيْرَ مرَّةٍ، باقتحامِ بيتِ الإمامِ، بعدَ منتصفِ اللّيلِ، لِلتّأكُّدِ مِنْ صِحّةِ هذه التّقاريرِ.
وفي كلِّ مرّةٍ، كانوا يجدونَ الإمامَ يُصلِّي في إحدى الغرفِ المفروشة بالحَصَى، ولا يَجِدُون سوى بعضِ الكُتُبِ، وسيفاً واحداً معلِّقاً على الجدارِ.
في آخرِ مرّةٍ، كانَ المتوكِّلُ يَشربُ الخَمْرَةَ في قصرِهِ «الجعفريّ»، وعندَما أصْدَرَ أَمْرَهُ باعتقالِ الإمامِ وإحضارِهِ إلى القصرِ([10])، كانَ الوقتُ بعدَ مُنتصفِ اللّيلِ.
إِنطَلقَ رجالُ الشُّرطةِ على خيولِهم، وقطعُوا المسافةَ بينَ المتوكليّةِ وسامرّاءَ في دقائقَ، وعندما اقتَحَموا دارَ الإمامِ وجدُوه يُصلِّي في الغرفةِ كعَادَتِه.
فتَّشُوا جميعَ الأماكنِ في القصرِ، لكنَّهم لم يعثَرُوا على شيءٍ، فلا سلاحَ ولا أَمْوالَ، شيءٌ واحدٌ أثارَ استغرابَهم، وهو أنَّ هذا القصرَ الكبيرَ يخلو تماماً من الأثاثِ والسجَّادِ والتُّحَفِ!
رجالُ الشُّرطَةِ اعتقلوا الإمامَ، ولم يسمحوا له بارتداءِ ثيابِ الخُرُوجِ.
الإمامُ الهادي هوَ، الآنَ، وحيدٌ في قصرِ الطّاغيةِ الذي كانَ يَشربُ الخمرَ، والمطربُونَ والمطرباتُ يَصْدَحُونَ بالأغاني.
قدّمَ الطَّاغيةُ كَأْسَاً من الخمرِ إلى الإمامِ، رفضَ الإمامُ تَنَاوُلَ الكَأْسِ بِشدَّةٍ، وقالَ: إنّه لم يخالطْ لَحمي، ولا دَمي أبداً.
قالَ الطَّاغيةُ: إذن أنشدْني شعرًا.
قالَ الإمامُ: إنَّني قَليلُ الرِّوايةِ للشِّعرِ.
غَضِبَ الطّاغيةُ وقالَ: لابدَّ منْ ذلكَ.
وهنا راح الإمامُ بكلِّ شجاعةٍ وإقدامٍ يُنشدُ شعراً لم يكنْ يتَوقَّعُهُ أحدٌ:
بَاتُوا على قِلَلِ الأَجْبَالِ تَحْرُسُهم واستُنزِلوا، بعدَ عزٍّ، من مَعَاقلِهم نَادَاهُم صَارِخٌ من بَعْدِما قُبِرُوا أينَ الوجوهُ التي كانَتْ مُنَعَّمةً فأفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُم حينَ ساءَلهَم لطالما أَكلُوا دَهْراً وما شَرِبوا وطالما عَمَّرُوا دُوْراً لتَحْصِنَهُم وطَالَما كَنَزُوا الأموالَ وادَّخَرُوا أَضْحَتْ منازِلُهم قَفْراً معطَّلَةً سَلِ الخليقةَ إذا وافَتْ منيَّتُهُ أينَ الرَّماةُ؟ أما تَحْتَمي بأسهُمِهم هيهاتَ ما نَفَعُوا شيئاً وما دَفعُوا فكيفَ يَرْجُو دوامَ العيشِ مُتَّصِلاً | غُلْبُ الرِّجَالِ فما أغْنَتْهُمُ القِلَلُ وأُوْدِعُوا حُفَراً، يا بِئْسَ ما نَزَلُوا أينُ الأسرَّةُ والتِّيجانُ والحِلَلُ؟ من دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكُلَلُ؟ تِلكَ الوُجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتَلُ فَأَصْبَحوا، بعد طُولِ الأَكْل، قد أُكِلُوا فَفَارقوا الدُّورَ والأهْلِين، وارْتَحلُوا فَخَلَّفوها إلى الأعْداءِ وانتَقَلُوا وسَاكِنُوها إلى الأجداثِ قد رَحَلُوا أينَ الحماةُ، وأيْنَ الخيلُ والخَوَلُ؟ لـمَّـا أتَتْكَ سهامُ المَوْتِ تَقْتَتِلُ؟ عنك المنيَّةَ إنْ وافى بها الأَجَلُ مَنْ رُوْحُه بحِبَالِ الموتِ تَتَّصِلُ([11]) |
كلُّ الحاضرين خافُوا، وتوقَّعوا أنَّ الطاغيةَ سيأمرُ بقتلِ الإمامِ فوراً، ولكنَّ الشِّعرَ كانَ قد أثَّر في شَخْصيةِ الطّاغيةِ في الصّميم، فانْهارَ باكياً، وأمرَ بإعادةِ الإمامِ إلى منزلِهِ معزَّزاً مكرَّماً.
القسطنطينيةُ 253 هـ /867 م
كانَتِ الأُسْرَةُ العَمُّوريَّةُ تحكُمُ بلادَ الرُّوم الكُبْرى، وعندما تُوفِّي الإمبراطورُ اتيوفيل سنة 227 هـ ـ 842م، خلَفَهُ على العرش ابنه ميخائيل الثّالث، وكانَ في السّادسةِ منْ عمرِهِ، لهذا تولَّتْ أُمُّه «تيودورا» الحُكْمَ بالنِّيابةِ، مع أخيها «قَيْصَر باراداس» خالِ الامبراطورِ القاصِرِ. وخلالَ حُكْمِها شنَّتِ العديدَ من الحَملاتِ العسكريّةِ على الدّولةِ الإسلاميّةِ، وقامَتْ بإعدام آلافِ الأَسْرَى.
وفي عَامِ 856م، قامَ أَخُوها «قيصرُ باراداس» باعتقالِها، وأجْبَرَها على دُخُولِ الدَّيرِ، وأصبحَ الامبراطورَ الفعليَّ للإمبراطوريةِ([12]). وفي تلكَ المدَّة، عاشَتْ أميرةٌ من هذه الأسرةِ تدعى «مليكة»، أرادَ جدُّها قيصرُ تَزويجها من ابنِ عمِّها، ولكنّ حادثاً مثيراً حالَ دونَ إتمامِ ذلك الزِّواج.
بعدَ ذلك، رأَتِ الأميرةُ رؤيا عجيبةً! رأَتِ السّيِّدَ المسيحَ جالِساً فوقَ أرضٍ منْ نورٍ، ثُمَّ دَخَلَ رجلٌ مهيبٌ يَرتدي زيًّا عربيًّا، أَدركَتْ الأَميرةُ أنّهُ النّبيُّ العربيُّ. وَكانتِ الابتسَامةُ تشرقُ في وجهه المضيءِ. نهضَ السَّيّدُ المسيحُ وعانَقَ النَّبيَّ. قالَ النَّبيُّ: يا روحَ اللهِ، جئْتُكَ خاطِبًا من حَواريِّك، شمعون، ابنته لابني هذا، أَوْمَأَ النَّبيُّ إلى فتًى أسمَر، عيناهُ تتألَّقان بالصَّفاء. ابتسمَ شمعونُ، وابتسمَ الحواريُّون. انتبهَتِ الأميرةُ من نومِها، ووجدَتْ نفسَها بينَ الرّاهباتِ، وكانَ جبينُها يلتهبُ منَ الحمَّى([13]).
كتمَتِ الأميرةُ هذه الرُّؤيا، ولم تُحدِّثْ بها أحداً. وفي الأيَّامِ التَّوالي، لم تَعُدْ ترغَبُ في الطَّعامِ، ولَزِمَتِ الفِراشَ، وأصابَها الضّعفُ، وعَجِزَ الأطبَّاءُ عنْ عِلاجِها.
مرَّتْ ثلاثةُ أيامٍ ومليكةُ تعاني تَأثيرَ الرُّؤيا. قبل غُرُوبِ شَمْسِ اليومِ الرَّابع، ظَهَرتْ لها العذراءُ مريمُ. لم تكنْ وَحْدَها، كانَتْ معَها سيّدةٌ يُشْرِقُ وجهُها بالنُّورِ، فَيَبْدُو النُّورُ كأنَّه تاجٌ كالإكليل.
قالَتْ مريمُ: هذه سيّدَةُ نساءِ العالمين فاطمةُ…
رأَتْ مليكةُ نفسَها في أحْضانِ السّيّدةِ الكَريمةِ، قالت: ماذا أفعلُ؟!
قَالَتْ فاطمةُ (ع): تَشهدينَ بأنَّ اللهَ واحدٌ لا إلهَ إلا هُوَ، وتُصدِّقين رسالةَ أحمدَ الّذي بشَّرَ به المسيحُ([14]).
عندما استيقَظَتِ الأميرةُ، كانَ اسمُ أحمدَ على شَفتيْها، وعَبْرَ النَّافِذَةِ المَفْتوحةِ جاءها صوتُ النّاقوسِ، فشعرَتْ بالخُشُوعِ، وامْتلأَتْ عَيْناها بالدُّموعِ.
وذاتَ ليلةٍ رأَتْ حُلماً آخرَ… كانت تَحْمِلُ بيْنَ يديْها قَمراً بهيًّا، وحوْلَه تُرفرِفُ أجنحةُ الملائكةِ. وعندَما استيقظَتْ، استغرقَتْ في التَّفكيرِ، هل يرسمُ القَدَرُ لها مصيرًا ما؟!
وفي تلكَ اللَّيلةِ، وقعَ حادثٌ لم يَهُزَّ القِسْطنطينيةَ فَحَسْب بلْ هزَّ الامبراطوريةَ بأَسْرِها؛ وذلك عندَما قامَ باسيلُ المقدونيُّ بانقلابٍ عسكريٍّ أطاحَ بالأُسْرَةِ العمُّوريّةِ.
كانَ باسيلُ، في بدايةِ أمرِه، مجرِّدَ سائسِ خيولٍ، يَعمَلُ في اسطبلِ الإمبراطور. روَّضَ ذاتَ يومٍ حصاناً جموحاً للامبراطور، فعيّنَهُ حاجباً ورئيساً للتَّشْرِيفَات، ولم يكنْ يعرفُ القِراءةَ والكِتابةَ.
كانَ باسيلُ انتهازيّاً، خدعَ الامبراطورَ وأقنعَهُ بأنَّ خالَه قيصرَ باراداسَ يتآمرُ عليهِ، فسمحَ لَهُ باغتياله. وبعد ذلك، قام باغتيالِ الامبراطورِ الضّعيفِ، ثمَّ سَيْطَرَ على عرشِ الامبراطويةِ. كانَ باسيلُ ماكراً، فدبّر الانقِلابَ بسرِّيَّةٍ تامَّة، ونَجَح في الوصُولِ إلى الحُكْم، فراحَ يُطَارِدُ أفرادَ الأُسْرةِ العَمُّوريَّة، ولم تَسْلَمْ تيودُورا التي أَصْبَحَتْ راهبةً في الدَّيرِ من الاغتيالِ، وقُضِي على الأسْرةِ الحاكمةِ، واختَفَتْ الأميرةُ مليكةُ؛ إذ إنَّها التَحَقَتْ، بوَصْفِها ممرِّضَةً، بإحدى الفِرَق العَسْكريَّة المُرابطةِ على الحُدُود.
سَامُرَّاء 253 هـ /867 م
كانَ الوقتُ ليلاً عندَمَا طَلَب الإمامُ الهادِي (ع) من كافور الخادم، أن يَذْهَبَ إلى مَنْزِلِ بِشْرِ بن سُلَيمان النَّخَّاس، تَاجِرِ العَبيدِ.
كانَ بشرُ تَاجراً مُتَديِّناً، وكانَتْ تجارةُ العَبيدِ آنذاك فيها الكثيرُ من الحَرامِ، فَقَدْ يُصَادفُ أن تُغِيرْ القوَّاتُ الحُكُوميَّةُ على مَناطِقَ إسلامية بحجَّةِ إخْمادِ الثَّوراتِ، وتسوقُ النِّساءَ المُسْلِماتِ سبايا، لهذا كانَ بشرٌ النخَّاس حَذِراً، وكان لا يَشْتري العَبِيدَ إلاَّ من سَبَايا الرُّوم.
جَلَسَ بِشْرٌ في حَضْرةِ الإمام، وراحَ يتأمَّلُ بخُشُوعٍ وَجْهَه الأَسْمَر. من يَرَاه لا يُصَدِّقُ أنه لم يبلغِ الأربعين بعد، ولكنَّ الشَّيبَ كان قد اشتَعَل في رأسه، فَبَدا كأنّه في الستِّين.
كانَ الإمامُ (ع) يحدِّثُ أختَه الجالسةَ وراء السَّتائر. وعندما جَاءَ بشرٌ، قالَ له: يا بشرُ، إنَّك من وُلدِ الأنصار، وقد وَرِثتُم، أنتُمُ الأَنْصَارُ، ولاءَ أَهْلِ البيت خَلَفاً عن سَلَفٍ، وأنتُم ثِقَتُنا أَهْلَ البيت، وسأُطْلِعُك على سرٍّ لم أُطْلِعْ عليه أَحَداً… إِذْهَبْ إلى بغداد، وانتظرْ في مَعْبَر الصُّراة قُدُومَ السَّبايا. وهناك ستَشْتَري فتاةً رُوميَّة.
ورَاحَ الإمامُ (ع) يحدِّثه عن صِفَات تلك الفتاة، ثمّ أَعْطَاه صُرَّةً صَفْراءَ اللَّون، فيها مئتان وعُشْرُون ديناراً ورسالةً مَخْتُومة.
في الصَّباحِ البَاكر، كانَ بشرٌ يتَّجه إلى شَارع الخليجِ؛ حيثُ الزَّوارِقُ التي تنقلُ المسافِرين إلى بَغْداد. كانَتِ الشَّمْسُ قد أشرَقَتْ فوقَ ذُرَى النَّخِيلِ على امتدادِ شاطئِ النَّهر، وكانَ المَرْسى، في ذلك الصَّباح الشَّتويّ البارد، خالياً إلاَّ من بَعْضِ الصَّيَّادين. في الضُّحى اجتازَ قَارِبٌ معبَر «الشَّماسية»، ولاحَتْ بعضُ جُذوعِ النَّخيلِ المحتَرِقَةِ. كانت هذه الجذوعُ قد احترقتْ في الحرب التي انتَهت قبلَ شُهُورٍ، كما بدا جزءٌ من السُّورِ الطَّويلِ مهدّماً وكذلك بعضُ المنازل.
وعلى مَقْرُبةٍ من مَعْبَر الصُّرَاةِ، يقَعُ سوقُ العبيد في مدينةِ بَغْداد. وصلَت عدَّةُ زوارقَ ورَسَت، وترجَّلت منها فتياتٌ يرتدين أشْكَالاً مختلفةً من الثِّياب.
وبَدَأَ النخَّاسون يُنَادُون على الرَّقيق، وراحَ بعضُ الأَغْنياءِ والموسَرين يَتقَدَّمون للشِّراء، بعضُهم يريدُ فتاةً لِلْطَّهوِ وآخر يُرِيدُها للغناء وعَزْف الموسيقى، وثَالثٌ يريدُ جَاريةً لسَرْدِ الأخبار والحكايات والقِصَص في جَلَسَات السَّمَر… وبقِيتْ فَتَاةٌ واحدةٌ راحَ النخَّاسُ يُنَادِي عَلَيها: عمرُها أربعَ عَشْرةَ سنة، روميَّةٌ تُحْسٍنُ العربية.
صَاحَ شَابٌّ: نريدُ رُؤيتَها.
أرادَ النخَّاسُ أَنْ يُمْسِكَها، فامتَنَعتْ بشدّةٍ، وأرادَ أحدُهم أن يجذبَ نِقَابها، فارتدَّت إلى الوراءِ، ولاحَ الغضبُ في عينيها. قالَ الشَّابُّ بانزعاج: كيفَ تريدُ بَيْعَها من دُونِ أن نراها؟ ضرَبَ النخَّاسُ الفتاةَ بالسَّوطِ فصَرَخَتْ من الألم. تَفرَّقَ النَّاسُ عن المكَان، فجاءَ بشرٌ، وقال للنخَّاس: معي رسالةٌ مختومةٌ من رجلٍ نبيل، فدَعْ هذه الفتاةَ تَقْرَأَها لتعرفَ أخلاقَ صَاحِبِها، فإنْ رَغِبَتْ فيه، فأنَا وكيلُه في الشِّراء.
هزّ النخَّاسُ رَأْسَه مُوَافِقَاً، وسلِّم بشرٌ الرِّسالةَ إلى الفتاة، فتَحتِ الفتاةُ الرِّسالة، وراحَتْ تَقْرأُ ما جَاءَ فيها، ورأى بشرٌ الدُّموعَ في عينيها. قالت للنخَّاس: بِعْني إلى صَاحِب هذه الرِّسالة. قالَ النخَّاسُ لبشر: كم تَدْفَع؟
قالَ بشرٌ: مَعي هذه المحفظةُ، وفيها مِئَتان وعشرون ديناراً. وبعد أَخْذٍ ورَدّ اتفقا على الثَّمن. وسجَّل النخَّاسُ وثيقةَ البيع، وانصرَف بِشرٌ، وكانَتِ الفتاةُ تَمْشِي وَرَاءَه.
وفي الطَّريقِ إلى سامرَّاء، قالَتِ الفتاةُ بأدَبٍ:
ـ أَعْرِفُ أَنَّك أمينٌ، وأنَّ من أَرسَلكَ قد استودَعَك سرّاً لم يُطْلِع عليه أحداً. أَصْغ جيِّداً لسرّ لا يَعْرِفُه أحدٌ، أنا مليكةُ بنتُ يشوعا بنُ قيصر، أمِّي من نَسْلِ الحواريّين، من نَسْل شمعونَ وصيِّ المسيح عيسى بن مريم.
ورَاحَتِ الأميرةُ الأسيرةُ تَرْوي للأَنْصَاريِّ بشرٍ فصولَ قصَّتها المُثيرة.
سامُرَّاء في اليَوْم التَّالي
قُبَيْلَ الغُرُوبِ، وصلَ بِشْرٌ محلَّة «دَرْبِ الحصا»؛ حيثُ تَقَعُ دارُ الإمام (ع)، وكانَتِ الفتاةُ تَمْشِي وَراءَه، وقد أَشْرَقتْ عَيْنَاهَا بالأَمَلِ. استقبلَ الإمامُ الفتاةَ التي وَصَلت باحترام. كانَ المنزلُ مغموراً بسكينةِ الغُرُوب. قالَ الإمامُ لكافور: ادعُ لي أُخْتي. جاءَت السيدةُ حكيمةُ لرؤيةِ الفتاةِ، وعندَمَا تعرّفت إليها عَانَقتْها، وقالت: إنَّها فتاةٌ كَامِلَةٌ، انحَنت مليكةُ، وقبَّلت يَدَ السَّيدةِ الوَقُور.
قالَ الإمامُ للفتاةِ: أريدُ أن أُكْرِمك، فأيّما أحبُّ إليك عَشْرَةُ آلاف درهم أم بُشْرى لك بِشَرفِ الأَبَد؟
قالتِ الفتاةُ بأَدَبٍ: بَلِ البُشْرى، يا سيِّدي.
قالَ الإمامُ: ابشري بوَلدٍ يملأُ الأرْضَ عَدْلاً بعدَ أن مُلِئت ظُلْماً.
أَطْرَقتِ الفتاةُ، وقد تورَّد وَجْهُها حياءً، وأشرَق في قَلْبِها الطَّاهرِ أملٌ مضيء. التفتَ الإمامُ إلى أختِه، وقالَ: يا بنتَ رسولِ الله، خُذِيها إلى مَنْزِلِك، وعلّميها الفرائضَ والسُّنَن([15]).
كانَتِ الغُيومُ تَحْجِبُ شَمْسَ الغُرُوب، ولكنَّ نُورَها ودفئها كانا يَغْمُران الأرضَ. نَهَضَتِ السَّيِّدة حكيمةُ، واصطَحَبتْ مَعَها الفَتَاةَ الكريمةَ التي سوفَ تكونُ لها عدّةُ أسماء، فهي «ريحانةُ» و«سَوْسَنُ» و«نَرجِسُ»، أمَّا اسمُها الحقيقي فهو مليكةُ، إنَّها أميرةٌ من الأسرةِ العموريَّة التي كانَتْ تحكمُ امبراطوريَّةَ الرُّومِ، جاءَ بها القدرُ لتُنْجِبَ الصَّبيَّ الموعود الذي بشَّرت بميلادِه الرِّسالاتُ الإلهية.
سامُرَّاء 254 هـ / 868 م
زار الحسنُ بنُ الإمامِ الهادي عَمَّته في مَنْزِلها، وهناكَ وقَعَتْ عَيْنَاه على الفَتَاة. نظرَ إليها طَويلاً، وهي أَيضَاً نَظَرتْ إليه، وتوهَّجَتْ في ذَاكِرتها الرُّؤيا: إنَّ مَشْهَدَ النَّبيِّ العربيَّ لا يَزَالُ يَسْطَعُ في الذَّاكِرَة. امتلأَ قلبُ السيِّدةِ حكيمةِ خُشُوعاً أمامَ مَشِيْئَةِ الله. لقد خَفَقَ قَلْبَاهما بحبٍّ طاهر نبيلٍ، تَأمَّلتْهُما السيِّدَة حكيمةُ، وتَمْتَمت: إن الله، سبحانه، هو مُقَلِّبُ القُلوبِ والمؤلِّف بينها، ثمَّ التَفتَتْ إلى ابنِ أخيها، وقالَتْ له: إنْ كنتَ هويتَها، فسأُرْسِلُها إليك؟ قالَ الفَتى الأسمرُ: حتَّى يأذنَ لي أبي. ابتَهَجَ قلبُ السيِّدة فَرَحاً، سوفَ تَزِفُّ لابنِ أخيها فتاةً طاهرةً نبيلة، لهذا انطلقَتْ إلى مَنْزِلِ أخيها الذي استَقْبَلها بابتسامةٍ قائلاً: إبْعَثي نَرْجُسَ إلى ابنِي.
قَالتِ المرأةُ المبارَكَةُ: يا سَيِّدي، من أَجْلِ هذا قَصَدْتُك، أرَدْتُ أن استأذِنَك.
قَالَ الإمامُ، وقد شعَّ في عينيه الفرحُ: يا مُبَاركةُ، إنّ الله، تباركَ وتَعالَى، أرادَ أن يُشْرِكَكِ في الأَجْرِ، ويجعلَ لك في الخَيْرِ نصيبا([16]).
عرسٌ هادئ
قَامَت السَّيِّدةُ حكيمةُ بتزيينِ العَرُوسِ في حجرةٍ اختَارَتْها لتكونَ عشَّاً دَافئاً لأسرةٍ طَاهرة! أسرةٌ سيَكونُ لها مجدٌ رفيعٌ. بدَتِ الفتاةُ في ثَوْبِ العُرْسِ الأبيضِ كأنَّها حُوريَّةٌ هَبَطَتْ من العَالمِ العُلْوي لتقتَرن بفَتًى علويٍّ هو فتى الأَحْلام.
عاشَتِ الفتاةُ أسعد أيَّامِ حَياتها في ظِلال فَتَى كريم تُضيءُ وجْهَه أنوارُ النبوّات، كان يخاطِبُها بأسماء جَميلة: نَرْجس، سَوسَنُ، ريحانة، وهذه أسماء وُرُودٍ ربيعية.
ثمَّ انتقَل الحسنُ مع زَوْجته إلى منزلِ والده، ليَعِيشا في إحْدَى حُجُرات القصر الكبير حياةً دَافِئةً مُفْعمةً بالحبِّ والطُّهر والإيمان([17]).
رحيلُ الإمامِ الهادي (ع)
في الخَامِسِ والعِشْرين، من جمادى الثَّانية سنة 254 هـ / 868م، رَحَل الإمامُ الهادي (ع) عن هذه الدُّنيا. تَجَمْهَر، يومَ وَداعهِ، مئاتُ النَّاسِ في «دَرْبِ الحصا»، وتعطَّلتِ الأسواقُ في المدينة، ومشَتِ الجموعُ تودِّعُ الرَّاحلَ العظيمَ إلى مثواه الأخير، في مَنْزِله الذي سيصبحُ في المستقبل منائرَ شمَّاءَ تعانقُ السَّماء([18]).
ووقف ابنُه الحسنُ الذي ورَث الإمَامَةَ يتلقَّى التَّعازي، والدُّموعُ تملأُ عينيه…
النَّاسُ جميعُهم حَزِنوا من أَجْلِ الرَّاحلِ الكَبير، وشارَكَ النَّصَارى المسلمين حُزنَهم، فسَمِعَ النَّاسُ أَصْوَاتَ النَّواقيسِ تَأتي من دَيْرٍ يقعُ خارج المَدينة([19]).
النَّاقُوسُ
ذاتَ يَوْمٍ، توجَّهَ الإمامُ الحَسَن (ع)، ومعه زَوْجَتُه، نحو بُسْتَانِ يقعُ خارجَ المدينة. وعندَما مرّا من جانب ديرٍ يقعُ على الطريقِ ارتفَعَ صوتُ النَّاقُوسِ، امتلأ قلبُ مَليكة بالخُشُوعِ، وتجمَّع الدَّمعُ في عَيْنيها، ونَزَلت منهما دَمْعَتان.
لا تَدْري لماذا تَشْعُرُ بالحُزْنِ كلَّما دقَّ النَّاقوسُ، ولا تَدْري سرَّ هذا الخشوعِ الذي يملأُ قَلْبَها الطَّاهرَ؟
إلتَفَتَ إليها زَوْجُها، وعندَمَا رأى الدُّموعَ في عَيْنيها، قال لها: أَتعْلَمين ما يقولُ النَّاقُوسُ؟
نَظَرَتْ إليه نَظْرَةً تنطقُ بالسُّؤال: ماذا يقولُ؟
قالَ الإمامُ (ع): إنَّا نَرْوِي عن جدِّنا عليٍّ (ع) قَوْلَه:
«لا إله إلّا الله حقَّاً حقَّا.. صِدْقاً صِدْقا.. إنَّ الدُّنيا قد غرّتنا.. وشَغَلَتْنا، واستَهْوَتْنا.. يا بنَ الدُّنيا مَهْلاً مهلا.. يابن الدُّنيا دقاً دقّا.. يا بن الدنيا جمعاً جمعا.. تَفْنَى الدُّنيا قَرْناً قَرْنا.. ما من يومٍ يمضي عنَّا.. إلَّا أوهى منَّا رُكْناً، قد ضَيَّعْنا داراً تَبْقى.. واستَوْطَنَّا دَاراً تَفْنَى.. لَسْنَا نَدْري ما فعلنا فيها إلاَّ لو قَدْ مِتْنا».
راحَتِ السَّيِّدةُ الطَّاهرةُ تردِّدُ الكَلماتِ المقدَّسَة مع صَوْتِ الناقوس: آه إنَّها تَنْطبقُ تماماً مع صَوْتِ الجَرَس، إنها تُفَسِّر ما يقولُ الناقوس([20]). امتلأ قلبُ مليكة بالخُشوع والحبِّ لأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله2.
الإمام الحسنُ (ع) في السِّجن
شعبان 256 هـ / 780 م
كان الإمامُ الحسنُ (ع) سجيناً بأَمْرِ الخليفة المُهْتدي الذي رَاحَ يتوعّدُ أَتْباعَ آل البيت (ع) بالإبَادَةِ والفَنَاء، وسُمِعَ الإمامُ يبشِّرُ بقُربِ نهاية هذا الخليفة([21]). وعندما حلّ شهرُ رجب سنة 256هـ، اندلعَتْ الاضطراباتُ في سامرَّاء، بعدما حَاوَلَ الخليفةُ القَضَاءَ على نُفُوذِ بعضِ القَادَةِ الأَتْراكِ، لكنَّ هؤلاء عَاجَلُوه، قبلَ أن يَنالَ منهم، وأَلْقَوا القَبْضَ عليه، وسَجَنُوه وقَامُوا بتَنْصيب المُعْتمد بن المتوكّلِ خليفةً بدلاً منه؛ وذلك في السَّادس عشر من رجب.
وتولَّى الوزارةَ يحيى بنُ عُبيد الله، وكانَ يُقدِّرُ الإمامَ (ع)، ويحترمُه، فأطلقَ سرَاحه، وأمرَ بتَخْفِيفِ المراقبةِ على منزله، لكنَّ مخاوفَ الحكَّامِ بقيت قائمةً؛ وذلك لأسبابٍ منها أنَّ مجيء الإمام المهدي (ع) كان يُقْلِقُهم، وأنَّ الإمامَ (ع) كان محبوباً ومُقَدَّراً من النَّاس. وقد رُوي عن الإمَامِ قَوْلَه: «زَعَمُوا أنَّهم يُريدُون قَتْلي ليَقطعُوا هذا النَّسلَ، وقد كذَّب اللهُ قَوْلَهم»، بولادة الإمام المهديّ (ع) ([22]).
مَوْلدُ الشَّمسِ
في غُروب 14 شعبان، انفَتَح بابُ منزلِ الإمام (ع)، وخَرَجَ كافورُ الخادمُ متَّجهاً إلى دارِ السَّيدة حكيمة. طرَق كافُورُ البابَ على عَمَّةِ الإمام، وقال لها: إنَّ سيّدي يقولُ: إجْعَلي إفطَارك اللَّيلَةَ عِنْدَنا.
لبّتِ السَّيِّدةُ دَعْوةَ ابنِ أَخِيْها، واستَقْبَلَ الإمامُ عمَّتَه بابتِسامةٍ أشرَقَ بها وجهُه الأسمرُ، وهي أَيْضَاً فرحَتْ بلقاءِ ابنِ أخيها، ولكنَّها شعرتْ بالحُزْنِ لمنظَرِ الشَّيبِ الذي غَزَا رَأْسَه، رُغْم أنَّه لم يبلغِ الخامسةَ والعِشْرين من العُمر.
عندَمَا غمرَ اللَّيلُ سامرَّاء، وسطَعتِ النُّجومُ في السَّماءِ، قالَ الإمامُ لِعمَّته: إنَّ الله، تَبَارك وتعالى، سيُظْهِرُ، في هذه اللَّيلة، حجَّته في الأرض.
سكتَ الإمامُ لحَظَاتٍ، وَقَال: سَيُولَدُ، في هذه الليلة، المولُود الكريمُ على الله، عزَّ وجلَّ، الذي يُحْيِي اللهُ به الأرضَ بَعْدَ مَوْتِها.
وقُبيلَ الفَجْر، وُلِد الصَّبيُّ الموعُود.. وُلِدَ نَظيفاً طاهراً كلُؤلؤةٍ تشعُّ على الشُّطآن، أو كقَطْرةِ نَدى تتألَّقُ فوقَ وَرْدةِ نرجسٍ في مَطْلِعِ الفجر. وُلِدَ شبيهُ موسى بنِ عمران وعيسى بنِ مَرْيم.
أَخَذَ الأبُ ابنَه، وأذَّن في أُذُنِه، ثم قَالَ: تكلَّمْ يا بُنَي. أُنْطُقْ بقُدْرة الله.. تَكَلَّم، يا حُجَّةَ الله وبقيَّة الأنبياءِ وَخَاتم الأَوْصِياء!
وحدَثَتِ المُعجزةُ؛ وإذا بصَوْتٍ مَلائكيٍّ يَنْسَابُ من فَمِ الصَّبِيِّ كنشيد الوُجود.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ونُريدُ أَنْ نمنَّ على الذين استُضْعِفُوا في الأَرْضِ ونَجْعَلَهم أئمَّةً ونَجْعَلَهم الوارثين * ونُمَكِّنَ لهم في الأَرْضِ ونُرِي فرعونَ وهامانَ وجُنْدَهما منهم ما كانوا يَحْذَرُون}.
وانفلقَ عمودُ الفَجْرِ الصَّادِقِ، وارتَفَع الأذانُ من فَوْقِ منابرِ سَامُرَّاء.
قَالَ الأبُ للسيِّدَةِ المبَاركة: يا عَمَة! رُدِّيه إلى أُمِّه كي تَقَرَّ عينُها ولا تَحْزَن، ولتَعْلمَ أنَّ وَعْدَ الله حَقَّ([23]).
عندَما احتَضَنَتِ الأمُّ وليدَها المباركَ، تَوَهَّجَتْ في أَعْمَاقها كلمَاتٌ مقدَّسَةٌ كانت قد حَفِظَتها منذُ عَهْدِ الطُّفُولة:
«وأمَّا إسماعيلُ فقد سَمِعْتُ قولَك فيه؛ وها أنَا ذَا أُبَارِكُه وأنمّيه وأُكثِّر عدَده جدَّاً جدَّا، ويَلدُ اثني عَشَر رئيساً وأجْعلُه أمَّةً عظيمة»([24]).
طلبَ الإمامُ من زَوْجَته ومِنْ عَمّته أن يُبقِيَا ميلادَ أبي القَاسِم محمَّدٍ سرّاً مكتوماً عنِ الجَمِيع.
غُروبُ الشَّمس
راحَ الإمامُ الحسنُ، خلالَ السَّنواتِ الممتدَّةِ من سنةِ 256 هـ إلى سنة 260 هـ، يُخْبِرُ المقرَّبين منه، من أَصْدِقَائه، بميلادِ الإمامِ الثَّاني عشر. وكانَ يُريهم الصَّبيَّ كلّما سَنَحتْ فرصةٌ مناسبة لذلك([25]). كانَ الإمامُ الحسنُ يَعِيْشُ في البيتِ الكبيرِ حَذِراً، لأنَّه كانَ يخشى من أَخِيه جَعْفر الذي كان يعيشُ معه في البَيْتِ نفسه. كانَ جعفرُ يطمعُ بالاستيلاءِ على الميراثِ، وكانَ يتصوَّرُ أنَّه إذا ماتَ أَخُوه الحسنُ فسوفَ يكونُ هو الإمام!
لهذا، ولأنَّ الخليفةَ وأعوانَه كانُوا يَخْشَونَ من الإمام المُنْتَظَرِ، الذي جاءَ ذكرُه في الأحاديث النَّبويّة، كانَ الصَّبيُّ يعيشُ في الخَفَاء يَنْتَقلُ بينَ حُجْرةِ أبيهِ والسِّرْدَابِ عَبْر نَفَق.
وذَاتَ يَوْمٍ، أرادَ الإمامُ الحسنُ (ع) أن يختَبرَ هذه الطَّريقَة في الاختفاء، فقال لأَحَدِ الخدمَ: أدْخُل تلكَ الحُجْرة وأخبِرْني بما تَرَى. ذهبَ الخادِمُ إلى الحُجْرة، فرأى صَبيّاً بهيَّ الوجهِ يُصَلِّي، فأخبرَ الإمامَ بذلك. بعد ساعة، قال له: إِذْهَبْ مرّةً أخرى، وأخْبِرني بما ترى، فَذَهَب، وعندَما دَخَل الحُجْرة لم يجدْ أَثَراً للصَّبي، فشعرَ بالدَّهْشَة([26]).
لقد وفَّر ذلك القصرُ الكبيرُ، بما فيه من سِرْدَاب وأنفاقٍ، مكاناً آمناً للصَّبي الذي يجب أن يعيشَ بعيداً عن أَعينِ الجواسيس. وفي سنَة 258هـ، شعرَ الإمامُ بالخَطرِ، وأحسَّ بأنَّ أخاه جعفَر قد انتبه إلى وُجُود الصَّبي، فَطَلبَ من والدتِه أن تَصْطَحبَ معها حفيدَها إلى الحَج، فقامَتِ تلك المرأةُ الصَّالحةُ بهذه المهمَّة، وكانَ الإمامُ قد أَمَر أحدَ وكلائه بأن يُرافقَ الصَّبي وجدَّته([27]). وصدقَ حَدْسُ الإمامِ، فقد تمَّت مداهمةُ دَارِه، وراحَ رجالُ الشُّرطة يبحثُون عن دليلٍ يثبتُ تَقَاريرَ الجواسيس، ولكن من دونِ جَدْوى، فقامُوا باعتقالِ الإمامِ الحسن (ع).
صَلاةُ الإسْتِسْقَاء
وَقَعت حادثةٌ جَعَلتِ الخليفَة يستَنْجِدُ بالإمام ويأمُرُ بإطلاقِ سَرَاحِه! ولكن لماذا؟!
كانَ الجَفَافُ قد ضَرَبَ مناطقَ واسعةً من البلاد، بسببِ عَدَمِ سُقُوطِ المَطر، فَذَهبَ الخليفةُ لأداء صَلاةِ الاسْتِسْقاء. ثلاثةُ أيَّامٍ والمسلمُون يُصَلُّون من أجل سُقُوطِ المطر، ولكن من دون فائدة. في اليومِ الرَّابع، خرجَ راهبٌ، ومعه بَعْضُ النَّصَارَى، فدَعُوا اللهَ أن يُنْزِلَ المَطَر. وما إن رَفَعَ الرَّاهبُ كفَّيه حتّى نزلَ المطرُ! بعضُ المسلمين، من ضِعَافِ الإيمان، شكَّك في حقَّانِيَّةِ الإسلام، وبعضٌ آخَر فكَّر في اعتِنَاقِ النَّصرانيَّة، لهذا جاءَ الخليفةُ بنَفْسه إلى السِّجْنِ، وقالَ للإمام: أَدْرِكْ أمَّةَ جَدِّك قَبْلَ أن تَهْلك!!
قالَ الإمامُ، بعد أن سَمع بما جرى: غداً أزيلُ الشَّكَّ إنْ شَاءَ اللهُ.
لهذا، أَصْدَر الخليفةُ أمْراً بإطلاقِ سَراحِ الإمام من السِّجن. فقال الإمامُ: وأَصْحَابي في السِّجنِ أيضاً يَخْرُجُون؟
قال الخليفةُ: وأَصحابُه أيضاً.
في صَبَاحِ اليومِ التَّالي، خرَج المسلمون للاستِسْقاء، ودَعوا الله بأن يُنْزِلَ المطَر لكن من دونِ فائدة. رَفَع الرَّاهبُ يَدَيْه إلى السَّماء، فنزلَ المطرُ. لاحظَ الإمامُ شيئاً مُريبَاً في حَرَكةِ الرَّاهِب، فقال: أَمْسِكوا بيَدِه، فأمسَكُوا بها، فإذا فيها عَظْمُ إنسَانِ، فأخَذَه الإمام (ع) منه، ولفَّه في خرقةٍ بيده!
قالَ الإمامُ للرَّاهب: ادعُ الآن.
رَاحَ الرَّاهبُ يَدْعو، ولكن من دُون فائدة. سألَ الخليفةُ: ما هذا، يا أبا محمَّد؟!
فَقالَ الإمامُ: هذا عَظْمُ نبيِّ عَثَر عليه الرَّاهبُ في بَعْضِ القُبور، وما كُشِفَ عَظْمُ نَبيِّ تَحتَ السّماء إلاَّ نزلَ المطرُ.
وأوصى الإمامُ بدَفْن عَظْمِ النَّبي احتراماً وإجلالاً للأنبياء([28]).
ثمَّ قَامَ الإمامُ يَدْعُو اللهَ، تعالى، أن تُمْطِر، فأمْطَرَتْ، فارتفَع الشّكُّ، من قلوبِ النَّاس، وازداد تمسُّكهم بالإسلام، وبأبي محمَّد الزَّكي (ع).
الرَّحيل
عَادَ الإمامُ إلى مَنْزِله بَعْدَ إطلاقِ سَرَاحِه، وعَادتِ الجدَّةُ من المدِيْنَةِ المنوَّرةِ ومَعَها الصَّبِيُّ.
في ربيع الأوَّل سنة 260 هـ، انتَكستْ صحَّةُ الإمامِ (ع) بشكلٍ مُفَاجئ، وسرَتْ هَمَساتٌ بأنَّ هناكَ من دسَّ السُّمَّ في طَعَامهِ!
أبدى الوزيرُ اهتمامَه بما حَصَل، فطلبَ من فريقٍ طِبّي أن يُجْري فحوصات. وبعد أن أجْرَى الأطبَّاءُ الفُحُوصاتِ تَبَادلَوا نظراتٍ ذاتَ مغزى: إنَّ حالةَ الإمامِ خَطِيرة، وإنَّه يعيشُ سَاعَاتِه الأخيرةِ([29]).
في يوم 7 ربيع الأول سنة 260 هـ / 31 كانون الأول سنة 872 م، وفيما كانَت سامرَّاءُ تمرّ بأطول ليلةٍ شتائية، كان الإمامُ راقداً في فراشه، وقد مضَت ساعاتٌ من اللَّيل.
طلبَ الإمامُ من خَادمه الوفيّ «عقيد» أن يأتيَه بإناءٍ من الماءِ السَّاخن، فقد كانَ يشعرُ بدنوِّ الأجل وسَاعةِ الرَّحيل، أحضرَتْ زوجتُه الإناء، وكانت تشعرُ بالحزن الشَّديد، مدّ الشَّابُّ الأسمرُ يداً ترتجف، وأخذ الإناء، لكنه لم يستطعْ أن يشرَب، فقال بصوتٍ مُنْخَفِضٍ: ليأتِ إليّ، عرفت السيِّدةُ ماذا يقصدُ زوجُها، فنهَضَتْ ودَخَلتْ إلى حُجْرةٍ كانَ الصَّبيُّ يُصَلِّي فيها، فأخْبَرَته بأنَّ أباه يريدُه. حضَرَ الصَّبيُّ بسُرْعَةٍ، وجلَسَ إلى جَانبِ أبيه. قالَ الأبُ: يا سيِّدَ أَهْلِ بيته، أَعْطِني شُرْبة. أخذَ الصَّبي الطَّاهرُ الإناء، وأَدْناه من فَمِ والده. ارتشفَ الإمامُ (ع) شربةً أشعَرَتْه بالدِّفء. قالَ الأبُ: جهِّزني للصَّلاة.
أَخَذ الصَّبِيُّ مِنْدِيلاً، ونَشَره على صَدْرِ أبيه، وراحَ يُسَاعِدُه على الوُضوء. واستغرقَ الإمامُ في الصَّلاةِ، وطَلَع الفجرُ.
قال الإمامُ (ع) لابنِه: بنيَّ الحبيب، أَنتَ صَاحِبُ الزَّمانِ، أنتَ المهديُّ الذي بشَّر بك النَّبيُّ، اسمُكِ اسمُه، وكنيتُك كنيتُه.
وشعَر الصَّبيُّ بالنُّورِ يملأُ قلبَه، نُورٌ قادمٌ من قَلْبِ السَّماوات. وأضافَ الأبُ: سوفَ تُواجِهُك المحنُ، يا بشارَة الأنبياءِ.
كانَتِ السيِّدةُ تَبْكي، فهذا زَوْجُها يودِّعُ الحياةَ، وهذا ابنُها مُعَرَّضٌ للخَطر الشَّديد، فقد قال له أَبُوه : أسكنْ، يا بنيَّ، في البراري البعيدة، وفي الجبالِ الوَعِرَة، وليحرُسْك الله.
ودمعَتْ عينَاه قبلَ أن يُغْمِضُهُما ويودّع الحياة([30]). وأخَذَت السيدةُ بيدِ ابنها، وغَادَرا المكان، لقد بدأَ فَصْلٌ جديدٌ في حياةِ ابنِها الوحيد.
الجمعة 8 ربيع الأول سنة 260 هـ 1/ كانون الثاني سنة 873 م
أرادَ جعفرُ أن يُصَلِّي على جُثْمانِ أَخيه الرَّاحلِ، كانَ يَطْمَعُ في أن يكونَ هو الإمامُ بَعْدَ أخيه. عندمَا وقفَ للصَّلاةِ والنَّاسُ خَلْفَه، وَقبْلَ أن يَبْدَأ بالتَّكبير، ظهرَ صَبيٌّ أَسمَرُ الوَجْه، مُتَموِّجُ الشَّعر. تَقَدَّم بخُطىً ثابتةٍ نحو جَعْفر، وقال له بحَزْم: تَأَخَّرْ يا عَمُّ، فأنا أحقُّ بالصَّلاةِ على أبي. إصفَرَّ وجهُ جعفر، وتراجَعَ، فوقَفَ خَلْف الصَّبي. وفي أثناءِ الصَّلاة، تساءلَ رَجُلٌ: من هذا الصَّبيُّ؟! قال جعفرُ: والله ما رأيتُه قطّ ولا أَعْرِفُه([31])!!
حُمِلَ النَّعْشُ إلَى المَسْجِد الجامع من أَجْلِ إِلقَاءِ النَّظْرَةِ الأخيرَةِ على جُثمان الإمام (ع)، ثم شُيِّع إلى مثواه الأخيرِ في منزله إلى جَانبِ والدِه الرَّاحِل.
الشَّمسُ وَراءَ السُّحبِ
في اليومِ التَّالي، داهمَ رجالُ الشُّرْطَةِ منزلَ الإمامِ الهادي (ع) بحثاً عن الصَّبيِّ، وقد أكّدت التقاريرُ السرّيةُ وُجُودَه!
أمَّا جعفرُ فقد كان يَتَصَرَّفُ كأنَّه الوارثُ الوحيدُ لكلِّ شيء. كانَ رجالُ الشُّرطَةِ يبحثُون في أنْحَاء البَيْت الكبير عن أثرٍ للصَّبي، ولكن من دُون جدوى! وقبل أن يَنْتَبِهوا إلى وُجُود النَّفَقِ الذي يربطُ الحُجْرَة بالسِّرداب، تظاهَرتِ السيدة بأنَّها تُعَاني من آثارِ الحَمْل.
تركَّزَتِ الأنظارُ عليها، ثمّ تمَّ اعتقالهُا وَوُضِعَتْ تحتَ الإقامةِ الجبريَّة في قَصْر رَئيسِ السُّلطة القَضَائية الذي أمرَ بمراقَبَتِها إلى أن تَضَع حملها([32]). أمَّا جعفرُ فقد فَرَضَ سَيْطَرتَه على البيتِ الكَبير، ووقَفَتِ الدَّولةُ إلى جانِبه في مسألةِ اقتسامِ الميراث، وأمَرَت زَوْجَةَ الإمام الهادي وأمَّ الحسنِ بالعَوْدةِ إلى المدينة المنوَّرة.
الصَّبيُّ في مكانٍ ما من سامُرَّاء، لقد قرَّرَ الاختفاءَ عن الأنْظَارِ ريْثَما تمرُّ الأزمةُ، ووالدتُه لا تزالُ رَهْنَ الاعتقال في قَصْر رئِيس سُلْطَةِ القَضَاء.
وبَعْدَ أسابيع، أحدَقَتِ الأخْطَارُ بالدَّولةِ، فقد اشتدَّت ثورةُ الزّنجِ في جَنُوبِ العراق وقامَتْ ثورةٌ في إيران، وانشغَلَتِ الدَّولةُ بمعالجةِ الأَوْضَاع الخطيرة([33]).
أَمَر رئيسُ السُّلطةِ القَضَائية بالإفْراجِ عن السَّيدةِ بعد أن تأكَّد له عدمُ وجود آثارٍ للحَمْل.
ولكنْ إلى أينَ ذَهَبَتْ والدةُ الإمام المنتظر؟ لقد اطمأنَّتْ إلى مصيرِ ابنِها الوحيد، نُبُوأةُ الرَّسولِ وبشارَةُ الأنبياء. إنَّه من سينقُذُ الإنسانيَّةَ من الظُّلمِ والقَهْر والهَوان، وسوفَ يَأْتي ذلك اليومُ الذي يشرقُ فيه النُّور. أمَّا هي فقد آن لها أن تلحقَ بزَوْجِها الحبيب. لقد شُوْهِدَت تلك السَّيدةُ بالقربِ من جدارِ الجامعِ الكبير في سامُرَّاء متجهةً نحو «درب الحصا»، وكانَ معها صَبيٌّ؛ وعلى حينِ غَفْلةٍ من العُيون دَخَلتِ القَصْر الكبيرَ الذي كانَتْ تسكُن فيه، وجلست عندَ قَبْر زَوْجِها الرَّاحل لحظاتٍ قبل أن تَنْهَضَ لتؤدِّي الصلاةَ الأخيرة، ثم تُغْمِضُ عَيْنَيها وترحلُ بسلاَم؛ وتألَّقت دمعةٌ على وَجْهها كقَطْرة ندَى فَوْقَ وَرْدَةِ نَرْجُس.
السُّفَراء
بعدَ رَحيلِ الإمامِ الحَسَنِ العَسْكَري (ع)، قرَّرَ العديدُ من أَصْحَابِه العَوْدَةَ إلى بَغْداد. وكانَ وكيلُه: «عثمان بن سعيد» يعملُ في تجارة الزَّيتِ، فاستَمَرَّ في السَّفر والتنقُّل بين بَغْدَاد وسامُرَّاء، وفي تَأْمينِ دَارِ الإمَامِ (ع) بما تحتاجه من الزَّيت.
كثيرٌ من النَّاس كانوا يقصُدُون وكيلَ الإمام في بَغْداد. كانَ الوكيلُ لديه اطّلاعٌ على وُجُود الصَّبي الذي أَصْبَح إماماً كما اختارَ اللهُ عيسى نبيَّاً في المهد. ذاتَ يومٍ، جاءَ رَجُلٌ يبحثُ عن الحقيقة، قال له: أَسْألُكَ بحقِّ الله وبحقِّ الإمَامين اللذين وثَّقاك، هل رأيتَ ابنَ الحسن!! أجَابَ السفيرُ والدُّموعُ تَفِيضُ من عينيه: أُخْبِرُك بشرط أن لا تخبرَ أحداً ما دُمتَ حيَّاً؟ هزَّ الرجلُ رأْسَه موافقاً، فقالَ عثمان: نعم رأيتُه يَوْمَ ولادَتِه، ورأيتُه وقد أَيْفَعَ وأصْبَحَ فتًى رَشيداً موفَّقاً([34]).
الهجومُ الأخيرُ على دَارِ الإمامِ سنة 275 هـ / 888 م
كانَ المعتَمِدُ خليفةً بالاسمِ فَقَطْ، أمَّا الخليفةُ الفِعْلي فكان طلحةَ بنَ المتوكِّل الذي عُرِفَ باسم «الموفَّق». وقد وصلَ إلى هذه المكانةِ بَعْدَ احتلالِه بغدادَ في الحَرْبِ الأهليَّة. كان الموفَّقُ هو الحاكمُ العَسْكريُّ والقائدُ العامُّ للجيوشِ العبَّاسية، وهو الذي قَضَى على ثَوْرة الزُّنُوج في أَهْوار العِراق. كان للموفَّقِ ابنٌ يُدْعَى «المعتضد». أسَّس المعتضدُ، في حياةِ أبيه، جهازاً سِرّياً سَيْطَر من خِلاله على شُؤون الخلافَةِ في سامرَّاء، وكانَ له نفوذٌ واسعٌ في بغداد بسَببِ نفوذِ والده، وكان يعملُ في ذلك الجهاز السرِّي قَادَةٌ أتراكٌ، من قبيل «رشيق» و «سيما» و «أبدو». وهذا الجهازُ هو الذي دبَّر عمليَّة اغتيالِ الوزير عبيدِ الله بن يحيى سنة 263 هـ .
في عامِ 274، أُجْبِرَ الخليفةُ المعتمدُ على الانتقال إلى بَغداد لتَسْهَلَ عمليَّةُ مُراقبتِه ومَنْعِه من الفرار إلى مِصر، بعد أن حاولَ ذلك قَبْلَ سنوات.
في عام 275 هـ/888 م، أَوْعَزَ المعتضدُ إلى بَعْضِ رِجَاله، بقيادةِ رشيق، بالهُجومِ على دَارِ الإمامِ الهادي (ع) في سَامُرَّاء وقَتْلِ صَاحِب الدَّار!
وفي الصَّباحِ البَاكر، انطلَق ثلاثةُ فُرسَان، وكلُّ فارِسٍ يَصْطَحِبُ معه فرساناً آخرينَ حتَّى لا تكونَ هناكَ فرصةُ لالتقاطِ الأنفاس. أَخْفَقَتْ عمليَّةُ اقتحامِ الدَّار بِسببِ مَسَاحةِ القَصْرِ الواسعة ووجُودِ قَنَاةٍ جَوْفِية يمكن الوصولُ إليها من بَعْضِ الأماكنِ، كما أنَّ وجود بعضِ الأنفاقِ السِّرِّية يمكنُ أن يسهّلِ عمليّة فرار الشَّخْصِ المطلوب واختفائه. وقد ذَكَر المؤرّخون أنَّ الإمام المهدي (ع) دخلَ سرداباً في القصر، واختَفَى في تشرين الثاني سنة 889/17 رجب سنة 279. تمّ اغتيالُ الخليفةِ المعتمدِ؛ حيث دُسّ السُّم في طَعَامه في أثْناءِ حَفْلةٍ ليلية على شَواطئِ دِجْلة في بَغْداد، وأُعلنَ المعتضدُ خليفةً رسمياً، وبدأَ عهدٌ جديد من الإرهاب استمرَ عشر سنين.
كان الإمامُ المهدي (ع) قد عيّن سُفَراء للاتِّصالِ بأنْصَاره، وقد تَعَاقب على مَهَمَّة السَّفارة أربعةُ رجَال: أولهم عُثْمان بنُ سعيد، ثم ابنُه محمد بن عثمان، وبعده الحسين بن روح، وأخيراً علي بن محمد السَّمري الذي استمر في أداء مهمته حتى سنة 329 هـ .
9 شعبان سنة 329 هـ/ حزيران سنة 941 م
تلقَّى السَّفيرُ الرَّابعُ رسالةً من الإمام المهدي في يوم 9 شعبان سنة 329 هـ جاء فيها:
«بسم الله الرحمن الرحيم
يا عليُّ بنُ محمَّد السَّمري، أعظمَ اللهُ أَجر إخْوَانك فيك، فإنّك ميِّتٌ ما بينَك وبينَ ستَّة أيَّام، فاجمَعْ، ولا تُوصِ إلى أحدٍ فيقومُ مَقامَك بعدَ وَفاتك، فقد وقَعَتِ الغيبةُ التَّامةُ، فلا ظهورَ إلاَّ بَعْد أن يأذَنَ الله تعالى ذكرُه؛ وذلك بعد طُولِ الأَمَدِ وقَسْوةِ القُلُوبِ، وامتلاء الأَرْضِ جُوْراً، وسيَأْتي لشيعتي (أنصاري) من يدّعي المشاهدة، ألا فَمَنْ ادَّعى المشاهدة قبل خُروجِ السُّفياني والصَّيحة فهو كذَّاب مُفْتَرٍ. ولا حَوْل ولا قوَّة إلاَّ بالله العَلِيّ العَظِيم».
وفي يوم 15 شعبان سنة 329 هـ، انقطَعَ آخرُ اتِّصالٍ بالإمام المهدي (ع) وبَدَأتِ الغيبةُ الكُبْرى([35]).
وبَعْدَ أيّام، تجمّعت السُّحب في سماءِ بَغْداد، وأصبَحَتْ كالجبال. وفجأةً اشتعَلَتِ البروق، ودوّت الرّعودُ، وانهمرَ المطرُ بغزارة، وهبّتْ عاصفةٌ رعدية وضَرَبَتِ الصَّواعقُ تمثالَ الفَارسِ الذي تربَّع فوق التلَّةِ الخضراء في قَصْرِ الذَّهبِ الذي أنشئ سنة 145هـ، واجتاحَتْ مياهُ الفيَضَان في دجلة مئاتِ المنازل في بغداد الغارقَةِ تَحْتَ المطر الغَزيرِ([36]).
([2]) المستدرك على الصَّحيحين، 4: 577. سنن أبي داود، 2: 151. ينابيع المودة: 179.
([3]) حياة الإمام الحسن العسكري، باقر شريف القرشي: 236.
([4]) إثبات اليوميَّة: 233. تاريخ الطبري، 7: 348.
([5]) تاريخ بغداد، 12: 57. موسوعة الفتيان المقدسة، الخليلي، سامراء، 12: 209.
([6]) موسوعة الفتيان المقدسة، 12: 209.
([9]) تاريخ الطبري، 7: 382 ـ 392.
([11]) موسوعة الفتيان المقدسة، 12: 390. قِلَل: قمم. الأجبال: جمع جبل. غُلْبُ الرِّجال: الرِّجال الأقوياء. الأستار: جمع ستارة. الكُلَل: جمع كُلّة، وهي ستارة توضع فوق عمود السرير. الأجداث: جمع جدث، وهو القبر. الخَوَل: العبيد. المنيَّة: الموت.
([12]) حياة الإمام الهادي (ع).
([13]) قصة الحضارة، ويل ديورانت، 4: 164 و165. تاريخ الطبري، 7: 376.
([14]) عقيدة المسيح، الرهبان سعيد أيوب، 100.
([15]) حياة الإمام الحسن العسكري: 163 ـ 165.
([18]) حياة الإمام علي الهادي: 151.
([20]) بحار الأنوار، 2: 321 ـ 322.
([21]) المنتخب من سيرة المعصومين، للشيخ فاضل الفراتي، ص 452 و453، 2: 321 ـ 322.
([22]) بحار الأنوار، 2: 321 و322.
([23]) تاريخ الغيبة الصغرى، محمد صادق الصدر: 174.
([24]) تاريخ الطبري، حوادث سنة 256 هـ .
([25]) تاريخ الغيبة الصغرى: 261 ـ 265.
([26]) الكتاب المقدس تحت المجهر، عودة مهاوش الأردني: 152.
([27]) تاريخ الغيبة الصغرى: 285.
([32]) الغيبة الطوسي: 161. بحار الأنوار، 52: 12.
([34]) الإمام المهدي من المهد إلى الظهور، عبد الكريم القزويني: 190 ـ 200.