السوق السوداء
كان مصادف يعمل في بيت الامام الصادق عليه السلام
أعطاه الامام ألف دينار وقال له: تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإن عيالي قد كثروا;
وبعد مدةعادت القافلة من مصر.. عادت تحمل الربح الوفير، وتحمل من عطور مصر الشيء الكثير.
وكان مصادف يشعر بالفرح فقد نجح في مهمّته وربحت تجارته، وامتزجت فرحته بالربح بفرحة لقاء الأحبّة والديار.
دخل مصادف ووجه يطفح بشراً، كان يحمل كيسين ملئا ذهباً، قال وهو يناولهما سيّده:
ـ هذا رأس المال وهذا ربحه.. لقد ربحت تجارتنا يا سيّدي.
ردّ الإمام مستفهماً:
ـ وكم هما؟
ـ ألفا دينار.
ـ ان هذا الربح لكثير!! ماذا صنعت حتّى ربحت هذا الربح؟!
كان مصادف يتوق إلى هذه اللحظة ليحدّثه عن تفاصيل رحلته
إلى مصر فقال:
ـ اشترينا متاعنا من سوق المدينة وكان فيه ما حمله تجّار اليمن ومكّة، وانطلقنا إلى مصر حتّى إذا وصلنا قريباً منها إذا بقافلة من تجّارها تستقبلنا في الطريق; وكان المكان محطّة للقوافل، فأناخت النوق; تلتقط أنفاسها من رحلة مضنية.
غابت الشمس وتوارت خلف التلال وحلّ الظلام واشتعلت مواقد النّار هنا وهناك في تلك الأرض; تساءل تجّار مصر عمّا تحمل قوافلنا من المتاع، حتّى إذا عرفوا ما فيه برقت عيونهم دهشة، فسأل بعضنا عن سرّ دهشتهم فقال أحدهم:
ـ انّه متاع العامّة وليس في مصر منه شيء.
وقال آخر:
ـ ما أوفر حظّكم، أنتم قوم سعداء.
وفي الصباح انفصلت عير مصر، وراح بعضنا ينظر إلى بعض. قال قائل:
ـ لا تبيعوا متاعكم حتّى يربح الدينار ديناراً.
وبرقت العيون اصراراً ولهفة.
شعر الصدّيق بقلبه يتلوّى ألماً فاعتصم بالصمت، فيما ظل مصادف يروي حكايته:
ـ وهكذا دخلنا مصر، فاهتزّ سوقها من أقصاه إلى أقصاه،
وأحاطنا التّجار من كلّ صوب، فلم نكن لنساوم على قيمة المتاع; كانوا ينصرفون ثمّ يعودون فلا يجدون سوى الاصرار كانت مقاومتهم تتضاءل شيئاً فشيئاً حتّى سلّموا لنا; وهكذا ربح الدينار ديناراً.. فهذه ألف دينار رأس المال وهذه ألف دينار ربحه.
طافت غيمة رمادية جبين وارث النبوّات; قال بحزن مرير:
ـ سبحان الله! تتحالفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ ان يربح الدينار ديناراً؟!
أخذ ابن محمّد كيساً واحداً وقال بحزن:
ـ هذا مالنا.. لا حاجة لي بالربح.
أطرق مصادف يفكّر حائراً، وسمع سيّده يقول:
ـ يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال.
تذكّر مصادف أشياء في رحلته لم يكن يأبه لها، تذكّر وميض العيون وهي تبرق طمعاً في الربح الوفير، تذكّر همسات التّجار في قلب الظلام لكأنّهم يتآمرون، تذكّر توسّلات النّاس في أسواق مصر وقد آلمهم ارتفاع السعر; تذكّر كل تفاصيل رحلته، وأدرك عندها انّه لم يربح شيئاً سوى لوم سيّده، فألقى نظرة ازدراء على كيس فيه ألف دينار ذهبي يخطف بالأبصار.
ودوّت في أعماقه كلمات قالها سيّده ذات يوم:
ـ كم من طالب للدّنيا لم يدركها ومدرك لها قد فارقها… ما الدّنيا؟
هل الدّنيا إلاّ أكل أكلته أو ثوب لبسته؟
ونهض مصادف ينفض عن ثوبه غبار الرحلة ويغسل عن نفسه أدران تجارته; وأدرك انّه لم يخسر شيئاً ذا قيمة، بعد أن ربح نفسه التي بين جنبيه.
ولم يكد فجر اليوم التالي ليطلع حتّى كانت الألف دينار تتناثر فوق بيوت الفقراء.