السينما الدينية في إيران – رنگ خدا نموذجاً
مدخل
كانت السينما الإيرانية قبل الثورة الإسلامية محاولة سطحية لتقليد السينما الهندية والسينما الأمريكية. وجاء انتصار الثورة ليدخل المشروع السينمائي في إيران مرحلة جديدة مؤذناً بمخاض عسير وولادة سينما جديدة… سينما تنتمي إلى روح شعب اكتشف هوّيته فعاد إليها، وراح يعبر عنها بلسانه ولغته وأفكاره وقيمه الأخلاقية.
ولم يستطع بعض من فناني العهد البائد ونجومه السينمائيين تفهّم عمق التغيير، وولادة قيم جديدة. فأفل نجمهم لتشرق في سماء السينما الإيرانية نجوم تتألق بنور الفكر العميق والثقافة الأصيلة.
ولم تمض فترة حتى كانت السينما الإيرانية تلج أبواب هذا الفن الرفيع؛ لتحصد أفلامها جوائز عالمية.
ولقد نجحت سينما ما بعد الثورة من إيجاد حالة من التعاطف والانسجام مع قضايا المجتمع الإيراني وهمومه الإنسانية، وتفهم ما يجري داخل المجتمع الذي شهد وما يزال حركة واسعة ومتسارعة الخطى بعد انتصار الثورة، وستكون السينما الإيرانية مرآة عاكسة لمجمل التغيرات والمسارات الاجتماعية والثقافية والفكرية.
سنتناول في هذه الدراسة الفلم الإيراني (رنگ خدا)؛ ليكون نموذجاً للسينما الدينية في إيران.
إذا أردنا أن نكون دقيقين في ترجمة اسم الفلم فإنه سيكون (لون الله)، ولكن سوف يبدو أن أدق معنى وترجمة لاسم الفلم هي (صبغة الله).
الفلم هو من سيناريو وإخراج المخرج الإيراني (مجيد مجيدي)، وقد حصل الفلم على جائزة الأُوسكار.
قبل البدء في الحديث عن هذا الفلم نودّ الإشارة إلى أن المقالة تتألف من ثلاث فقرات أساسية:
الأولى: تتمحور حول نفس الفلم من وصف عام له، وبيان اسم مخرجه ومؤلف السيناريو، وشخصيات الفلم.
أما الفقرة الثانية: فترتبط بقصّة الفلم، حيث ستُعرض في إطار قصّة قصيرة، تجمع بين وصف للمشاهد ومحاولة التعبير عن مشاعر شخصياته.
وستكون الفقرة الثالثة: مناقشة لأفكاره ومضمونه الإنساني والأخلاقي والاجتماعي، وبكل ما يمكن أن يقدم تفسيراً أو استكشافاً لما وراء المشاهد والكلمات.
وإليكم وصفاً عاماً للفلم:
مع بدء العطلة الصيفية يتوافد آباء الأطفال المكفوفين إلى المركز التعليمي الخاص بهم لاصطحابهم إلى منازلهم، ويبقى محمد ذلك الطفل الحالم ينتظر أباه الذي يأتي متأخراً ويصطحبه إلى المنزل حيث يعيش مع اُختيه الصغيرتين وجدّته العجوز، أما اُمّه فقد فقدها البيت الذي تعيش فيه الأُسرة. بيت قروي في إحدى قرى الشمال الإيراني حيث تهطل الأمطار على مدار ثلثي العام.
والد محمد يسعى للزواج مرّة اُخرى، ويرى في وجود ابنه المكفوف عقبة. كان قد خطب أرملة شابة وأهلها يلحون في الإسراع في إجراء مراسم الزفاف.
بدأ أبو محمد الاستعداد لاستقبال العروس، وراح يجري بعض الترميمات في البيت وتنظيفه.
أما محمد فقد ذهب مع اُختيه إلى مدرسة القرية، وقد فوجئ المعلم والتلاميذ عندما كان يقوم بتصحيح قراءة زميله.
ويستشيط والده غضباً. كان يحاول إبعاد ابنه عن القرية؛ لأن في ذهابه إلى مدرسة القرية يعني بقاؤه.
لذا صمم على أرسال ابنه إلى نجار هو الآخر مكفوف البصر في قرية اُخرى.
كانت الجدّة خارج البيت، لقد ذهبت إلى السوق لتبيع ما باضت دجاجاتها، وعندما عرفت ما فعل ابنها بحفيدها المسكين شعرت بالألم وغادرت البيت تحت المطر الشديد.
حاول ابنها إعادتها وراح يتوسل إليها، فعادت ولكنها سرعان ما لازمت فراش المرض لتموت.
اُسرة العروس شعرت بأن ما حصل بداية مشؤومة فأعادت هدايا أبومحمد الذي شعر بالإحباط وامتطى صهوة حصانه منطلقاً نحو النجار ليعود بابنه. وفي طريق العودة وعلى جسر خشبي قديم انكسر وسقط محمد هو والحصان لتجرفه أمواج النهر. تسمر الأب في مكانه لحظات قبل أن يرمي بنفسه في النهر لينقذ فلذة كبده، ولكنه فقد وعيه عندما ارتطم باحدى الصخور… وعندما فتح عينيه وجد نفسه على الشاطئ، ثم لمح ابنه قريباً منه، اعتنق ابنه وظنّه ميتاً، ولكن دفء الحياة كان يتسرّب إلى جسد ابنه.
إن اسم الفلم كما ذكرنا استلهام من الآية الكريمة (138) من سورة البقرة في قوله تعالى: >صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ< صدق الله العظيم.
يمتاز الفلم بقلّة الحوار تاركاً للطبيعة تعبر عن نفسها بصوت المطر، ولمعان البروق، ودويّ الرعود، ولنور الشمس ونسائم الهواء أن تتحدث بوضوح تام وكأنها تسبّح الله.
واستطاع الفلم من خلال انتخابه الموفق لطفل مكفوف أن ينفذ إلى إحساس المشاهد ووجدانه ويهزّه هزّاً؛ ليوقظ فيه مشاعر غفل عنها طويلاً. ولذا لا عجب أن يحصل الفلم على جائزة الأُوسكار.
(رنگ خدا) أو صبغة الله هو رابع تجربة سينمائية للمخرج مجيد مجيدي، الذي بدأ حياته الفنية ممثلاً ثم يقف الآن في طليعة المخرجين الإيرانيين الناجحين، ويعدّ بحق رائد السينما الدينية في إيران.
بقي أن نعرف أن محسن رمضاني الطفل المكفوف البصر والشخصية الاُولى في الفلم، ليست له قبل هذا الفلم تجربة في التمثيل بشكل عام، وشاء القدر أن يكون أول من ينقل مشاهديه إلى عالم اُولئك الأطفال الذين حرموا من نعمة البصر، وعوضهم الله الرحمن الرحيم بصيرة في القلب يدركون بها ما حولهم من تفاصيل الوجود.
يبدو للوهلة الأُولى أن عالم المكفوفين هو عالم ظلام أبدي.. ليل مستمر.. ليل ليس في سمائه قمر ولا نجوم.. ظلام في ظلام.
ترى كيف ينظر محمد ذلك الطفل ذو الثماني سنوات إلى ما حوله ومن حوله؟
ولكن هذا العالم الداخلي على عكس ما نتصور مفعم بالنور.. نور لا يشبه نور الشمس، ولا ضوء الضمر.. إنه شيء يسطع في داخل النفس الإنسانية ويجعلها أكثر صفاءً وسكينة.
وهذه الأضواء التي تبهر عيوننا، وتخطف في بعض الأحيان عقولنا، تحرمنا من رؤية الله نور السماوات والأرض.
إن عالم محمد ذلك الطفل البريء عالم مفعم بالطمأنينة.. إنه يدرك أشياء كثيرة لا يدركها أقرانه، وحتى من هم أكبر منه في السن والعمر.
إن علاقته بالطبيعة علاقة وثيقة، وقد وجدها سخية بالعطاء، كانت تعلّمه كل شيء، وكانت تتحدث معه بلغة يفهمها جيداً.
كان محمد يكتشف أشياء وهو يلمس حبات القمح في الحقل، والحصى في قعر النهر، وهو يصغي إلى صوت نقار الخشب في الغابة.
أجل، إن محمد يدرك قبل غيره، بل ويشعر بكل وجوده بأن كل شيء يسبّح لله تعالى.
وقد يبدو الفلم وكأن طفلاً يبحث عن الحقيقة، ولكن هناك ما يرمز إلى بحث النفس الإنسانية عن حقيقة الوجود، وكان الطفل أفضل من يمثل حركة النفس وبحثها عن الحقيقة.
وإذا كان الطفل قد حرم نعمة البصر، فقد عوّضه الله سبحانه بصيرة نفّاذة، فإذا به يدرك من أسرار الوجود ما يشعره بالسلام، فيما كان أبوه يعاني من حيرة مدمّرة.
وكانت الطبيعة هي محراب الإنسان الذي يريد الحديث مع الله ومناجاته. من أجل هذا كان محمد ينفر من المدينة ومن ضوضائها، وكان يجد نفسه في أحضان الطبيعة أكثر طمأنينة وسكينة.
وبعكس الرؤية الغربية التي تجعل من الإنسان مظلوماً إزاء الطبيعة القاسية، فإن الفلم يظهر الطبيعة اُمّاً رؤوماً للإنسان، تحاول إرشاده والأخذ بيده نحو شاطئ الأمان والنبع الذي يرتوي منه الحنان.
هل تضمن الفلم دعوى لنا أن نغمض عيوننا قليلاً عمّا يخطف أبصارنا، ويطيح بعقولنا لنصغي وننصت إلى صوت الطبيعة وسيمفونية الوجود علّنا نستطيع اكتشاف ما اكتشفه محمد من أسرار الوجود؟
ولم تغفل القصة أن تسجل احتجاجاً هادئاً ضد بعض التقاليد التي تنظر إلى بعض الظواهر نظرة مشوّهة، أو تحاول حذف بعض الناس الذين قدر لهم أن يصابوا بعاهة ما.
ينبغي تصحيح الرؤية وإعادة تسمية الأشياء بأسمائها كما تعلّمها أبونا آدم ثم نسيها، ثم راح يتذكرها في الأرض بعد واقعة الهبوط…
ستكون الأرض مكاناً لاستعادة تلك الذكريات الإنسانية.. سيكون النور الحقيقي هو ما يسطع في داخل النفس البشرية، ويضيء لها الطريق.. وستكون اليد البيضاء هي اليد الحانية، وكما اكتشفها الطفل المكفوف في يد جدّته الحنون.
وعندما يكتشف الإنسان هذه الحقائق حينئذٍ يعرف موقعه ودوره في حركة الوجود نحو مبدأ الوجود.
القصّة
جلس محمد ينتظر قدوم والده.. لقد انتهى الموسم الدراسي، وجاء الآباء والأُمهات لاصطحاب أولادهم إلى المنازل، وحتى هذه اللحظة لم يحضر الأب. هو في طهران واُسرته في إحدى قرى الشمال..
اُذناه ترهفان السمع إلى كل صوت وهمهمه.. يصغي لزقزقة العصافير في أعشاشها، وتناهى إليه مواء قطّة..
محمد بسنواته الثماني يسعى لإقامة علاقة وثيقة مع الطبيعة في أعماقه شوقاً إلى قريته..
نهض من مكانه.. إنه لا يطيق الانتظار أكثر من هذا.. خطا نحو مصدر الصوت.. في وسط حديقة المركز التعليمي يرهف اُذنيه إلى ما حوله.
سمع خطى تتجه نحوه.. عرف أنها خطى أبيه، لقد حضر.. ابتعدت عنه الخطى أرهف سمعه جيداً سمع حواراً، كان أبوه يتحدث مع مدير المركز.. أدرك أن أباه لا يود اصطحابه، يريد أن يقنع المدير بإبقائه وإمضاء العطلة الصيفية هنا.
شعر بالحزن، وحنين إلى والدته التي فقدها منذ أمد طويل.
هبّت نسمة طيبة فأحسّ بالنور يملا صدره، واستنشق نفساً طويلاً، وأحسّ بيد والده تمسك كفّه فابتسم.. سوف يحتضن جدّته ويقبّل اُختيه الصغيرتين.
في وسط الحقول الخضراء، وحيث نسائم الهواء شعر محمد أنه في أحضان اُمّه الرؤوم، وأنّ كفاً حانية تربت على كتفيه وتمسح على رأسه، فشعر بالدفء والأمل يملأ صدره.. أخذ نفساً عميقاً وملأ رئتيه بهواء نقي يختلف عما كان يتنفسه في تلك المدينة الكبيرة المليئة بالضوضاء.
مدّ كفّه الصغيرة يمسح فوق سنابل القمح الممتلئة.. كان يتمتم بما تعلمه في مدرسته بطهران.. لكنه بدا وكأنه يسبّح.. كما لو أنه يسبّح. اندمجت تمتماته مع أصوات الطيور، ومع نسائم الهواء وهي تهبّ فوق الحقل، ومع أصوات الحشرات والهوام.
من يراه في وقفته وسط السنابل المتألقة تحت نور الشمس، ومن يرى استغراقته إلى حدّ الذهل، يحسبه شاعراً مأخوذاً بما يرى من ألوان الطبيعة، قد سحره تمايل سنابل القمح، وذهلته عن نفسه تغاريد الطيور، وأسكرته نسائم الهواء.
أو يحسبه فيلسوفاً غارقاً في تأملاته، قد حيّرته حقائق هذا الوجود الكبير، فهو يبحث عن سرّه ومكنونه وما انطوى عليه من غايات.
لكن ما أن تقترب منه فإنك ستجده واضحاً تحت ضوء الشمس طفلاً يبحث عن موقعه في هذه الدنيا، يتساءل في أعماقه عن الفرق بين كفّي جدّته الحنون ويد والده الغليظة.
وربما كان يتساءل في نفسه عن سرّ ما يفعله والده الذي يريده بعيداً عن القرية؟ ولماذا يرفض أهل تلك المرأة التي يريد والده الزواج منها وجوده هنا؟
ما فرقه عن أطفال القرية؟ إنه لا ينسى تلك اللحظات التي أمضاها في مدرسة القرية، وكيف كان يصحح للتلاميذ قراءتهم.. كان يقرأ أفضل منهم، هكذا قال المعلم..
كانت اُختاه سعيدتين جداً، وكانتا تفخران به. أما والده فقد استشاط غضباً.. إنه لا يريده أن يذهب إلى مدرسة القرية.. لا يريده أن يبقى في القرية أبداً.. ولعله يريد له الرحيل ليس من القرية، بل من الدنيا.. وتذكر في هذه اللحظة والدته أين رحلت؟ وأين هي الآن؟ آه يا اُمي الطيبة.
مع اُولى خيوط الفجر استيقظت القرية الغافية وسط الطبيعة الخضراء على مقربة من الغابة.. واستيقظ محمد مع زقزقة العصافير.. وتناهى إلى اُذنيه ترجيع رعد بعيد.. كان الجو ينذر بهطول المطر.. والمطر في قرى الشمال الإيراني أمر يومي، فعلى مدار أكثر من مئتي يوم تهطل السماء الملبّدة بالغيوم بالمطر.. بعضهم يشكر الله عدد قطرات المطر، وبعض يتأفّف من كثرة المخاضات والأوحاول.. كما هو أبو محمد الذي كان ينتظر جوّاً يساعد على إجراء ترميمات على البيت وإعادة طلائه لاستقبال العروس. أهلها يلحون في التعجيل بالزفاف، يريدون لابنتهم الثيب أن تغادر بيتهم وتذهب.. المرأة في هذه القرية وفي كل القرى عندما تغادر أهلها إلى بيت الزوجية تصبح غريبة حتى لو ترمّلت أو تطلّقت، وإذا ما عادت إلى أهلها فإنها تكون ضيفاً ثقيلاً للغاية.
لم يكن هذا الصباح عادياً، ولم يشعر محمد بالنور، ولذا لم يتنفس ملء صدره.. كان يشعر بأن شيئاً ما يضايقه، خاصّة عندما عرف أن جدّته ذهبت باكراً ولن تعود بهذه السرعة.
شعر بقشعريرة برد تكتسح جسمه كلّه، وأحسّ بالخطر.. أبوه يتقدم نحوه وهو يقود حصانه العجوز.. شعر بأن يد والده أكثر غلظة من ذي قبل.
سأل بلهجة فيها ذعر:
ـ إلى أين يا أبي؟!
قال الأب بلهجة فيها شيء من القسوة:
ـ سآخذك إلى نجار في القرية المجاورة.. هناك تتعلم بعض الأشياء المفيدة.. لا يصح أن تبقى دون عمل.
انتفض الصبي وحاول أن يتمرّد بكل ما اُوتي من قوّة، ولكن كف أبيه أصبحت أكثر غلظة وأكثر.. راح يتوسل ولكن دون جدوى.
استغاث بجدّته، ولكن استغاثته ضاعت مع دوي رعود بعيدة.
استسلم لقدره، وظل يذرف الدموع، فامتزجت مع حبات مطر خفيف كانت تتساقط على هون.
عندما عادت الجدّة كان المطر ما يزال يتساقط على هون كدموع اليتامى، لم تجد حفيدها. أدركت على الفور أن ابنها قد فعل شيئاً، سألته عن محمد.. حاول الابن أن يزيغ، ولكن لا فائدة.. أخبرها.. شعرت بأن قلبها الضعيف تلقى طعنة.
سكتت الجدة على مضض.. وتصور أبو محمد أن كل شيء مرّ بسلام.
المطر بدأ يشتد، وصوت الرعود كان يجلجل في فضاء لا نهائي.
راحت الجدّة تلملم أشياءها البسيطة لترحل..
إنها تحتج بشدّة على فعلة ابنها.. ابنها الذي يريد أن يبني سعادته على شقاء الآخرين.
وحاول أبو محمد أن يثني والدته عن الرحيل، ولكن دون جدوى.
كان صوته يتضاءل أمام هزيم الرعود، ونظرات الجدّة الثاقبة، التي شعر أنها تغوص في أعماقه وتعرف مدى ضآلته.
صرخ أبو محمد وهو يفسح لها الطريق.. صرخ ثم أجهش بالبكاء.. واشتدّ هطول المطر..
راحت الجدة تنقل خطواتها الواهنة تحت المطر الذي راح يشتد ويشتد، وسرت قشعريرة برد ورهبة في بدنها الخاوي.
كانت الجدّة تفكر في مصير حفيدها، وفي ما يفعله ابنها بنفسه وبطفله.. ما ذنب هذا المسكين.. لامت في نفسها تصرّف ابنها وأطلقت آهة من أجل حفيدها..
وصلت إلى مخاضة موحلة فتوقفت.. رأت ابنها الذي راح يتوسل ويبكي من أجل أن تعود.
لم تستطع أن تعرف سرّ ما يفعله.. هل يحبها؟ هل يشفق عليها؟ هل يخشى كلام الناس وما يسيقولونه عنه إذا سمعوا بما حصل؟
لم يكن بد من العودة، فعادت مستسلمة لقدرها، وهتفت في أعماقها وهي تنظر إلى السماء المنهمرة.. لك الله يا بني! وخرج صوتها مرتجفاً، وزاد إحساسها بالقشعريرة أكثر فأكثر.
جلسا للاستراحة بعد ساعات من العمل.. كان محمد صامتاً كعادته، رأى النجار الشاب أن يخبره، فربما أثر ذلك في نفسه… أخبره بأنه مكفوف.. وراح يروي له ما عاناه في حياته.. شعر محمد بأنه قريب جداً من هذا الرجل.. إنه أقرب إليه من والده.. ولذا راح يروي جزءاً من آلامه.. وبكى.. كانت دموعه تغسل عن قلبه ما تكاثف فوقه من مشاعر الكراهية والنفور، وعاد كما كان نقياً يستطيع أن يسمع تسبيح الكائنات.
في الغروب توقف المطر، كانت السماء قد سحّت مطراً غضيراً.. شعر محمد بأن الليل قد حلّ.. بدأ يسمع أصوات حشرات وهوام وسط سكينة تغمر الكون..
اتجه قلبه الطاهر نحو نقطة في الوجود.. كان يناجي.. يطلب الرحمة والعون.. وشعر بشوق غامر في أن يرمي نفسه في أحضان جدّته الرؤوم.
أحسّ بيد دافئة تمتد إليه من مكان ما تمسح على رأسه والسكينة تملأ نفسه، فغفا؛ فيما كانت ملايين الكائنات تسبّح في قلب الليل والظلام.
توفيت الجدّة.. وارتفعت مناحة في ذلك البيت القروي، وما لبث الخبر أن انتشر في القرية الصغيرة، كما هي الأخبار في القرى..
كان أبو محمد غارقاً في همومه وبدا وجهه جامداً خالياً من أي تعبير، وما لبث أن جاء رجل من أقصى القرية يسعى.. ليضع بين يديه صرّة.. «إن أهل المرأة يعتذرون ويردّون لك الهدايا».
عرف كأي قروي أن اُسرة العروس تشاءمت، لقد توفيت امرأته منذ زمن وها هي اُمّه تلحق بها في أيام العرس… إنها تتشاءم من هذا الزواج.
هنا، أجهش أبو محمد بالبكاء. أكان يبكي على زوجته الأُولى أو اُمّة أو ابنه المكفوف، أم على نفسه، وربما كان يبكي على كل ذلك.
كان ينظر إلى نفسه إلى أي مدى وصل من الوحدة والغربة، وقفزت صورة ابنه لتحتل كل مساحة كبيرة من خياله.. شعر بنبع من الحنان يتوقف في أعماقه، فنهض من فوره آخذاً طريقه إلى تلك القرية في أطراف الغابة.
لم يكن محمد متحمساً للعودة، كان قد تعلّم في هذه التجربة أشياء كثيرة، علّمه النجّار أشياء عن الحياة، وتأثر بتجربته. لكنه مع ذلك استسلم ليد أبيه كانما يستسلم لقدر ما..
امتطى ظهر الحصان، وراح أبوه يقودهما خلال أشجار الغابة.. اُذنه تنصت إلى أصوات هنا وهناك.. صوت خطى الحصان وأنفاسه، وأصداء لخطوات أبيه وقد تراءت له واهنة متعبة وحائرة، كأنما ضلَّ طريقه بين آلاف الأشجار، وتناهى إليه صوت النهر زخاراً متدفقاً وعنيفاً كسيل غاضب.
على جسر خشبي كان الحصان ينقل خطاه، وكان محمد مستغرقاً لصوت النهر يتدفق بقوة ويزمجر عندما يرتطم بصخور ثابتة، لولا هذه الصخور لسار النهر هادئاً، وحينئذٍ لن يسمع صوته.. ولما اكتشفه.. شعر أنه يذوب فيه.. يندمج معه، ويتحد بحركته، ولكن إلى أين؟!
كان الحصان قد قطع ثلثي المسافة من الجسر الخشبي المتهرئ عندما زلّت قدمه ليهوي داخل النهر الغاضب.. حدث كل شيء بسرعة، بحيث ظل أبو محمد متسمراً ينظر إلى لجّة النهر تجرف ابنه نحو مصير غامض.. لماذا ظل يراقب كما لو أنه غير معنيٍّ بما حصل؟
هل كانت لحظات ذهول؟! هل شعر بأن مشكلته قد حلّت على نحو ما؟! إن النهر يأخذ ابنه إلى مكان بعيد.. أبعد مما كان يتصور.
لم يعد يتحمل أكثر من هذا؟ إن نبعاً من العاطفة يتفجّر في أعماقه، ويحطّم ما تراكم من الصخور القاسية..
انبجست الدموع من عينيه لتمتزج بالمطر.. لم يكن هناك وقت؛ قذف الأب بنفسه في لجّة النهر يبحث عن فلذة كبده التي ضاعت وسط الأمواج.
كان النهر غاضباً جداً وقد بدا عنيفاً ومدمّراً، يعربد دون رحمة.
الأب والابن في خضمّ الأمواج.. هل أراد النهر أن يضع نهاية لحياة لا معنى لها لدى أحدهما أو كلاهما؟!
هل حاولت الأمواج أن تعكس غضباً مخزوناً في الطبيعة مما يفعله الإنسان بنفسه وبغيره؟!
كفّ النهر عن عربدته، وهدأت الأمواج الصاخبة عن اندفاعاتها المجنونة بعد أن انساحت في وادٍ فسيح…
كانت المياه هادئة في الشطآن الممتدة، وظهر جسدان جسد الأب وجسد نحيل للابن غير بعيد… صحا الأب ليلتفت ويرى ابنه، فعانقه وراح ينتحب ويبكي بمرارة، وينظر إلى السماء.. إلى نقطة ما في تلك الأغوار السحيقة الممتدة إلى ما لا نهاية..
فجأة.. أضاءت نقطة مفعمة بالنور والدفء تسللت من مكان ما في ذلك الجسد الذي حطمته الأمواج؛ لتعيد له الحياة..
واهتزت إصبعٌ في كفّ الصبي تبشّر بعودة الروح.. والحياة..
فيما كان النهر يمضي في طريقه إلى البحر الكبير.