ثمن الخلاص
عند سياج المزرعة وقف الفلاح ينظر إلى حقوله كانت الشمس ترسل أشعتها الذهبية فتغمر أرضه بالنور والدف.
كان الفلاح رجلاً مثابراً يحب أرضه فبنى كوخه في الوسط وقسم أرضه إلى حقول عديدة زرع فيها أنوار الخضار وأنواع الأشجار المثمرة كما زرع بعض الأشجار ذات الظلال الوارثة من قبيل الصفصاف والكالبتوس.
أما النهر الصغير الذي يخترق أرضه وحقوله فقد شق منه عدداً من الجداول والسواقي يمدّ حقوله بما يناسبها من حاجتها من المياه. وبالقرب من الكوخ في وسط الحقول بنى الفلاح اقنان الدجاج.
كان الفلاح الطيب يعيش حياة هانئة إلى أن اكتشف ذات يوم وجود ثعلب ماكر في داخل المزرعة. كيف تمكن الثعلب من التسلل إلى المزرعة بقي الأمر خافياً على الفلاح هل نقب الأرض تحت السياج أم قفز فوقه لا يعرف.
راح الثعلب الماكر يعبث في المزرعة، فقد كان ينهى بعض الشتلات أو يعيش في جذور بعض الزروع، وأحياناً يستيقظ الفلاح على صاح الدجاج بعد أن يهاجمها الثعلب.
لقد كانت دجاجة تسرح وتمزح في الحقول أما الآن فهي حبيسة داخل الأفنان، فالثعلب الماكر كان يمكن في مكان ما من المزرعة ويراقب حتى إذا لمح دجاجة أو ديكاً تسلل نحوه ثم يهجم على هدفه فإذا هو ضحية بين مخالبه وانيا به! وتمادى الثعلب في أذاه فكان يعيش بالنباتات ويتلفها، أو ينهش بعض الثمار ويفسدها.
وحاول الفلاح أن يصطاد الثعلب فنحب الكمائن ولكن دون جدوى.
كان الثعلب من المكر بحيث شعر الفلاح باليأس فكان يكتفي باصلاح أفسده الثعلب أو رمي الشجيرات الميتة خارج سياج المزرعة.
لهذا وقف الفلاح الطيب حائراً في ذلك اليوم ينظر بأسف إلى حقوله وأرضه ومزرعته، قال في نفسه: أنه ولا شك مختبئ مكان ما من هذه الحقول ينظر إليّ ساخراً.
وفيما هو واقف يفكر مهموماً إذ ظهر في الأفق ثلاثة فرسان كانوا يقتربون من أرضه.
اقترب الفرسان أكثر فأكثر حتى حاروا على بعد خطوات من الفلاح وعلى الفور عرف الفلاح هوية الفرسان أنه الأمير مع اثنين من مرافقيه، كانوا ظامئين جداً.
رحب الفلاح بالأمير ترحيباً حاراً وأسرع إلى كوخه وأحفر أبريقاً مليئاً بالحليب الطازج وارغفه الخبز وسلّة مليئة بالفاكهة.
ترجل الأمير عن فرسه مع مرافقيه، وجلسوا على العشب الأخضر وشربوا الحليب الطازج حتى ارتووا وتتبادلوا شيئاً من الخبز والفاكهة حتى شبعوا وشكروا الفلاح على حسن ضيافته وكرمه قال الأمير.
ـ أيها الفلاح الطبيب لقد كنت طمئناً فسقيتني لبنا سائغاً وجائعاً فقدمت ما لديك من الخبز الشهي والفاكهة اللذيذة والآن اطلب مني ما تحبّ!
قال الفلاح
ـ أيها الأمير إن من تقاليدنا أكرام الضيوف ونحن لا نأخذ على ذلك أجراً.
ـ حسناً أيها الفلاح الطيب إذا احتجت شيئاً ذات يوم فما عليك إلا أن تخبرني بذلك.
نهض الأمير وامتطى صهوة جواده وكذلك فعل مرافقاه.
وعندما أرادوا مغادرة المكان تذكر الفلاح مشكلته مع ذلك الثعلب الخبيث لهذا قال للأمير:
ـ ما هو؟ تكلم
ـ أن في مزرعتي ثعلب ماكر افسد حقولي وافترس دجاجتي وسبب لي الأذى وقد حرت في أمره!
ـ ماذا تريد مني:
ـ اطلب منك النجدة أيها الأمير أريد أن أستريح من شرّه ضحك الأمير، قال:
ـ حسناً أيها الفلاح الطيب أن الشمس على وشك أن تغيب ونحن قد عدنا من رحلة صيد مضنية ولم نصطد شيئاً.
لكني أعدك بأن أتي غداً ومني عشرة فرسان أقوياء وسوف نريحك من هذا الثعلب.
فرح الفلاح الطيب حتى أنه عندما أوى إلى فراشه تلك الليله ورأى في عالم المنام الأمير ومعه عشرة فرسان يفتشون في الحقول حقلاً حقلاً حتى امسكوا بالثعلب وألقوه في الشبكة وأخذوه معهم.
وعلى صباح الديك استيقظ الفلاح فأدرك أن ما رآه لم يكن سوى حلم فقط ألا أنه استبشر خيراً وقال في نفسه لقد وعدني الأمير بالقضاء على هذا الثعلب الماكر.
كانت السماء في ذلك الفجر زرقاء مثل نص الفيروز، راح الفلاح يميل البصر في الحقول، وألقى نظرة على اثنان الدجاج وقد كفت الديكة عن الصباح، وقد بدأ يوم جديد.
فتح الفلاح باب الفن وخرجت الديكة والدجاج تبعث عن رزقها في الحقل الصغير الخاص بها.
وهبّت نسائم الفجر الندية فتمايلت سنابل القمح وسمع الفلاح صوتاً من حقل الكروم، تحسّر الفلاح: ألا أنه يعبث بشجيرات العنب هبّ إلى الحقل فلم ير أثراً وحانت منه التفاته فرأى بعض عناقيد العنب وقد عبث فيها الثعلب.
قال بصوت يسمعه الثعلب ولا شك.
ـ هذا يومك الأخير أيها الثعلب ـ لقد حانت نهايتك.
كان الشمس قد بزغت وظهر نصف القرص الأحمر، نظر الفلاح إلى الأفق حيث الطريق المؤدية إلى التلال؛ قال الفلاح وكأنه يحدث الحقول:
ـ سيأتي الأمير ومعه فرسانه الأقوياء وسوف نرتاح من شرور هذا الثعلب وأذاه.
وعلى خط الأفق ظهرت نقاط سوداء راحت تكبر شيئاً فشيئاً حدق الفلاح في المشهد وقال محدثاً نفسه.
ـ لقد وفى الأمير بوعده ها هو قادم يمتطي صهوة جواده تحفه كوكبة من الفرسان.
هل أحس الثعلب بالخطر لأنه اختفى تماماً ولم تعد تصدر عنه حركة أو صوت. فقال الفلاح في نفسه.
ـ يا له من ثعلب ذكي!!
وصل الأمير تحفه كوكبة من فرسانه الأقوياء فقدم الأمير وألقى تحية الصباح على الفلاح الذي أحنى رأسه احتراماً وإجلالاً.
استدار الأمير إلى فرسانه الذين اصطفوا استعداداً لتنفيذ الأوامر؛ بدأ الأمير خطابه قائلاً.
ـ يا جنودي البواسل، في هذه المزرعة يختبئ ثعلب ماكر ظالما عبث في الحقول، وطالما افترس الدجاج، وقد استنجد بي هذا الفلاح الطيب، للخلاص من شروره.
والتفت الأمير إلى الفلاح وقال:
ـ لقد وفيت بوعدي كما ترى والآن اطلب منك مغادرة المزرعة حتى نبدأ العمليات.
خرج الفلاح من المزرعة ووقف قريباً من السياج ليرى كيف سيقبض الأمير وفرسانه على ذلك الثعلب الماكر؟!
أصدر الأمير شارة الهجوم وبدء العمليات. فاندفعت الخليل نحو المزرعة فدكت في البداية السياج الشرقي وانتشرت في الحقول.
اتجه ثلاثة من الفرسان نحو حقل الدجاج وتحطمت تحت سنابك الخيل الأفنان وداست الحوافر عدّة من الديكة والدجاج وهاجمت مجموعة أولى من الفرسان حقل الكروم، فلم يسلم عقود واحد من حوافر الخيل ـ واندفع فارس نحو حقل القثاء فتطايرت ثماره هنا وهناك.
رفع الأمير كفه عالياً فتجمعت كوكبة الفرسان عند السياج الجنوبي وأصدر الأمير شارة الهجوم مرّة أولى فاندفعت الخيول تدك في طريقها الحقول وتواصل اندفاعها لتدمر السياج الشمالي من المزرعة.
كان الفلاح المسكين يراقب ما يجري بذهول؛ آه أنهم يحيلون أرضي وحقولي إلى خرائب وأنقاض أراد أن يخبر الأمير بذلك أن يتوسل إليه بوقف العمليات ولكن الأوان قد فات فالأمير قد استولى عليه الحماس وألهب ظهر جواده بالسوط واندفع نحو الحقول يشارك في الهجوم المدمّر!
وأخير حوصر الثعلب الماكر في ركن المزرعة بين السياج الغربي والجنوبي، وتقدم الأمير وخلفه صف من الفرسان نحو الثعلب الذي كان يلهث من شدّه التعب.
لم تعد هناك أية فرصة للضرار فاستسلم.
وتقدم الأمير فأمسك به وربط عنقه بالحيل واقتاده أسيراً.
امتطى الأمير صهوة جواده وراح يسير مزهواً بانتصاره الساحق! وانتظم الفرسان خلفه في مركب رسمي.
الأمير يسير وخلفه الثعلب الأسير وخلف الثعلب كوكبة من الفرسان.
ومرّ الموكب من أمام الفلاح الذي بدا غارقاً في حزن مرير، ينظر إلى الثعلب مرّه وإلى ما حل بحقوله مرّة أخرى.
وغاب الموكب عن عينيه وظل الفلاح يضرب كفاً بكف ويرى ما حل بأرضه وحقوله وزروعه.
ماذا يفعل وكيف يصلح ما حل بأرضه من خراب لقد تخلص من ثعلب واحد ولكن مزرعته الآن بلا سياج يحميها من تسلل عشرات الثعالب وهجوم مئات الذئاب!