ذلِكَ الفَتَى الغَرِيبُ
كانَتْ النارُ تَشتَعِلُ في الموقِدِ والجمْرُ يَتَوَهَّجُ بِلَونِهِ الفُسْفورِيِّ الأحْمَرِ، راحَ الصِغارُ يَنظُرونَ جَدَّهُم وَينتَظِرونَ حِكايةً جَديدةً.
كانَتْ لَيلَةً شِتائِيةً، المطرُ يَنْهَمِرُ بِغَزارِةٍ، تُحلِّقُ الأولادُ حَولَ الموقِدِ يَتَطلّعونَ إلى جَدِّهم بِعيونٍ حالمةً يترّقبونَ بشوقٍ حَديثَ جَدِّهم رَاحَ الجدُّ يُداعبُ بيدِهِ النَحيلةِ المعروفَةِ لحيَتَهُ البَيضاءَ.. جَلجَلَ الرَعدُ في أنْحاءِ الفضاءِ اللّانهائيِّ فارتَسمَ على وجوهِ الأطفالِ خَوفٌ بَريءٍ، واقتَربُوا مِنَ الموقِدِ أكثَر، يَلتَمسِونَ الإحْساسَ بالطمأنينةِ والدفءِ.
قالَ الجدُّ:
ـ في زَمنٍ بَعيدٍ وقَبلَ مِئاتِ السنينِ كانَتْ قَريةً كثيرةَ النَخيلِ والأشجارِ في سَهلٍ مُنْبسطٍ خصيبٍ، وكانَ نَهرٌ صغيرٌ يتَفرعُ مِن نَهرِ الفراتِ.. كانَ اسمُ تِلكَ القَريةِ «باخمرىٰ»، وذاتَ يَومٍ عِندما كانَتْ صَبايا القَريةِ يُملأنَ جِرارَهُنَّ منَ النَهرِ ويَتحدَّثنَ وصَلَ إلى تِلكَ القريةِ فتىً غَريبْ.
كانَ الفَتَى بَهيَّ الطَلعَةِ تَبدْو على وجهِهِ مَلامِحُ الوَقارِ والأدَبِ.
كانَتْ الرياحُ قَد شَرَعَتْ في هُبوبِها مِن ناحِيةِ الشَمالِ، وتَناصَى إلى أُذِنِ الفَتَى صَوتُ فَتاةٍ تُحدِّثُ صُويحِباتِها بأدَبٍ ورِقَّةٍ، ولم يَكنْ الفَتَى يُولِي حَديثِها اهتماماً في أولِ الأمرِ.. لكنَّه تَوقَّفَ حِينَ سِمِعَ الفَتاةَ تَقولُ بلهجَةٍ صاخِبَةٍ:
ـ … وحقُّ صَاحبِ بَيعةِ الغَديرِ.
اقترَبَ الفَتَى وسَألَها:
ـ ومَنْ هُوَ صاحِبُ بَيعةِ الغَديرِ يا صَبِيَةُ؟
أجابَتْ الفَتاةُ بأدَبٍ:
ـ إنّه ابنُ عَمِّ الرَسولِ وزَوجُ البَتولِ عليُّ بنُ أبي طالبٍ.
أطْرقَ الفَتَى برأسِهِ وأرادَ أنْ يَمضِيَ في طريقِهِ ولكنَّ الفتاةَ سألَتُهُ:
ـ لَعلَّكَ غَريبٌ؟
قالَ الفَتَى:
ـ نَعَم.
ثُمَّ أردَفَ:
ـ ألَا يُمكنُكَ أنْ تُدلّني على صَاحِبِ حَيِّكم هذاA؟
ـ نَعَم وكرامةً.. إنّهُ يُكرِمُ الضُيوفَ.
لَم يَكنْ يَخطِرُ في بالِهِ وَهُو يَمشِي وَراءَها أنَّها ابنةُ صاحِبِ الحيِّ ورَئيسِ القبيلَةِ.
اشتَدَّ هُبوبُ الرِياحِ والتي رَاحَتْ تَعبَثُ بِثيابِ الفَتاةِ فَتُجسّدُ مَحاسِنَها.
هَتَفَ الفَتَى:
ـ دَعينِي أتَقدَّمُ أمامَكِ ثُمَّ أشِيرِي عليَّ بالطَريقِ أنَا مِن أهلِ بيتٍ يَغُضّونَ الأبصارِ.
أكبَرَتْ الفَتاةُ عِفّةَ هذا الفَتَى الغَرِيبِ فَتَخلَّفَتْ وَرَاءَهُ وَهِي تُفكُّر في شَأنِه.
* * *
وتَمرُّ الأيامُ ويَستَقّر الفَتَى في هذِهِ القريَةِ الجَميلةِ الهادِئةِ وقَد طابَ لَهُ المقامُ فِيها بَعدَ أنْ وَجَدَ عَمَلاً يرتَزِقُ مِنْه، فَكانَ يَجلِبُ الماءَ مِنَ النَهرِ إلى حَيثُ يَحلُّ المسافِرونَ والغُرباءَ ضُيوفاً على صَاحبِ الحيِّ.
وخِلالَ تِلكَ الفَترةِ كانَ الفَتَى يُفكّرُ في أهلِهِ، لقَدْ اضطّرتْهُ الظُروفُ إلى مغادَرةِ وَطنِهِ ومرابِعِ طفولَتِهِ.. لقَدْ شَاهَدَ بِنفْسِهِ شِرطَةَ الخَليفةِ هارونَ وهُم يَعتقِلونَ والدَه ويَتجهونَ بهِ إلى مَدينَةِ البَصرةِ. ثُمَّ سَمِعَ بأنَّ أخَاه إبراهِيمَ قَدْ فَرَّ إلى بِلادِ فارِسٍ… كانَ يُفكرُ بِما حَلَّ بأُسرَتِهِ خاصّةً والدتَهُ وأخِيهِ عَليّ وأُختَهُ فاطِمَةَ؟!
كانَتْ هذِهِ الخواطِرُ لا تَنفَكُّ تُراودُ ذِهنَهُ كلّما رَفْرفَتْ أجنِحَةُ اللَيلِ لِتَحتَضِنَ الكائِناتِ وتَغْمُرُ خَفايا الأسْرارِ، وقَدْ تَهيجُ بِهِ الذكرياتُ فَتُسلِمْه إلى بُكاءٍ مَريرٍ يَقطَعُ نِباضَ القَلبِ، ثُمَّ يَرفعُ كفَّيهِ إلى السَماءِ ويَدعو إليهِ سبحانَهِ ويَبثّه حُزنَه وآلامَه.
* * *
عُرِفَ الفَتَى لَدىٰ أهلِ القريَةِ بالعِبادةِ والتَقوى والأدَبِ وأصبحَّ حَديثِ الناسِ، وكانَ بعضُهم يتساءَلْ في حَيرةٍ لماذا يُتكلَّمُ على نَسبِهِ وأصلِهِ واسمُ قبيلَتِهِ.
وفي لَيلةٍ غابَ فِيها القمَرُ، وكانَتْ النُجومُ تَسطَعُ في السَماءِ، ألَمّ بصاحِبِ الحيِّ أرَقٌ شَديدٌ، فَلَم يَستَطِع النَومَ وظَلَّ يَتقلَّبُ في فراشِهِ، واستيقظَتْ زوجَتُه، وعِنْدَما رَأتْه يُغادِرَ فِراشَهُ، قالَتْ: هل أصابَكَ مَكروهٌ؟!
قالَ: لا شَيءَ ولَكنْ لَم يَغمضْ ليَ جِفْنٌ.
قالَتْ: إلى أينَ ستَخرجُ؟
أجابَ:
ـ إلى البُستانِ، علّي أروِّح عن نَفسِي قَليلاً.
ـ تَخرجُ في هذِهِ الساعةِ مِنَ الليلِ؟!
كانَ الصَمتُ يَملأُ المكانَ ما خَلا صوتُ خُطواتِهِ عن ضِفافِ الساقِيةِ، وفِيما هُو يَمشِي سِمِعَ هَمْهَمَةً خاشِعةً تَخترِقُ سُكونَ اللَيلِ وتَمتَزجُ مَعَ خَرِيرِ الساقِية.. فاتَجهَ جِهةَ ذلِكَ الصَوتُ الخاشِعُ فإذا بهِ يَرى مَشهَداً لَم يَرَه مِنْ قَبلُ.
كانَ الفَتَى يَجلِسُ على أرضٍ معشوبَةٍ على ضِفافِ الغَديرِ وقَدْ اتجهَ بوجْهِهِ إلى بَيتِ اللهِ.. وقَدْ تألّقَ وجههُ نُوراً حتى تَهيّبَ مِن الاقترابِ احتراماً وهَيبة. كانَ الفَتَى غارِقاً في مُناجاتِهِ يُتَمْتِمُ بِكلماتٍ خاشِعةٍ تَمتزجُ بالحُزنِ والدُموعِ.. لهذا عادَ الرَجلُ أدراجَهُ إلى الدارِ فَوجَدَ زَوجَتهُ ما تَزالُ مُستيقِظَةً تَنتظِرُ عودَتَه بِقَلقٍ.
* * *
أَشرقَ الصَباحُ، وغَمَر القَريةَ بأنوارِهِ البَهيةِ، وبَكّرَ الفَتَى إلى عَملِهِ كالمعتادِ، ولَم يَعلَم بِما عزَمَ عليهِ صاحِبُ الحيِّ..
فَلَم يَكَد يَنقَضِ نَهارُ ذلِكَ اليومِ، وَيتلوّنُ الأُفقِ الغَربيِّ بِحُمرةِ المغيبِ، وفِيما كانَ الرعاةُ يَعودُونَ، وهُم يَسوقونَ ماشِيتَهم إلى حَظائرِها.. طلَب صاحبُ الحيِّ مِنَ الفَتَى أن يَحضَرَ، وما أسرَعَ أنْ جاءَ، وامتَثلَ أمامَه.
قالَ الشَيخُ بِحنانٍ:
ـ إنَّ لكَ مَنزلةً في نَفسِي.. وقَدْ أدخَلَ اللهُ مَحبَّتكَ في قَلبِي.. ولَم أرَ مِنكَ إلّا الأمانةَ والإخلاصَ.. وإنّي أرغَبُ في أنْ أُزوّجُكَ إحدىٰ بَناتِي.
ـ …
أنْتَ تَعرفْ أنَّ لَديَّ ثلاثُ بناتٍ، فاختَرْ أيِّهنَّ شِئتَ.
ـ …
ـ أعرفُ أنَّكَ فَقيرٌ، وأنَّكَ لا تَملكُ شَيئاً، ولكنَّ هذا لا يَمنعُ مِنَ الزواجِ، وإنِّي أُريدُ أن أتقرَّبَ إلى اللهِ بذلكَ.
أجابَ الفَتى:
ـ ولَكنْ… الأمرُ إليكَ يا عَمّ.
قالَ الشيخُ وقَد لا مَسَتْ كلماتُ الفَتى قَلبَه:
ـ اختر أيَّهنَّ شِئتَ!
مرَّتْ لَحظاتُ صَمتٍ، عادَ الفَتى خِلالَها بِذاكرتِهِ إلى اليومِ الذي حَلَّ فيهِ الفَتى ضَيفاً، قال:
ـ يا عَمُّ، لا أختارُ غَيرَ تلكَ الفتاةِ التِي أقسَمتُ بِصاحبِ بَيعةِ الغَديرِ، عانَقَ الشَيخُ الفَتى بحرارةٍ وقالَ:
ـ على بَركةِ اللهِ.
* * *
لَم يَكنْ مألوفاً في ذلكَ الوقتِ تَزويجُ الغرباءِ؛ ولهذا عارضَ الكثيرونَ هذا الزواجُ، ولكنَّ الشيخَ تحدَّثَ مع ابنتهِ وعرضَ عَلَيها الزواجَ منَ الفَتى فسكتَتْ..
قالَ الأبُ:
ـ الحمدُ للهِ.. سكوتُ البنتِ يَعني رِضاها، وبَعدَ أيامٍ تَمَّ الزواجُ، وانتقَلَ العريسانِ إلى بيتٍ صغيرٍ، وعاشَ الفَتى حياةً طيبةً هانئةً مع زوجتهِ، ورَزقَهما اللهُ طفلةً جميلةً ملأتْ قلبَه فَرحاً، وكانتَ له عَزاءً عن تِلكَ الأيامِ المريرةِ.
وكانَ الشيخُ يُحبُّ حفيدَتِهِ حُبّاً جَمّاً، وكانتَ الطفلةُ تَنمو وتَكبُر، وظَهرتْ مَلامِحُ الذكاءِ، ما جَعَلها مَوضعُ اعتزازِ الجَميعِ.
وكانْتَ كَكلِّ الأطفالِ تَلعبُ معَ الصغارِ، فجاءَتْ ذاتَ يومٍ تَبكي، فَسألتْ الأمُّ ابنتَها:
ـ لِماذا تَبكينَ يا عَزيزتي؟
قالَتْ البنتُ وهيَ تَذرِفُ الدموعَ:
ـ إنَّهم يُشيرونَ إليَّ، ويَسخرونَ منِّي، يقولونَ: ابنةُ الغَريبِ. سكتَتْ الأُمُّ وقالَتْ البنتُ:
ـ أليسَ لأبي قَبيلةٌ؟ ما اسم قَبيلةُ أبي؟
احتَضنَتْ الأُمُّ ابنَتها وقالَتْ:
ـ أنْتِ ابنةُ رَئيسِ القَبيلةِ.
ـ أعرفُ أنَّه جَدِّي، ولكنْ أُريدُ أنْ أعرفَ قَبيلةَ أبي!
قَبَّلتْ الأُمُّ ابنتها، وراحَتْ تَمسَحُ بِحَنانٍ على شَعرِها، ونَظرَتْ إلى زَوجِها نَظرَةً فِيها عِتابٌ؛ لأنَّه ما يَزالُ إلى اليَومِ يُخفي عَنها سِرَّهُ الدَفينِ.
شَعرَ الشابُ بالألمِ، وطَفَرتْ من عَينيهِ الدموعُ، وإذا بالصَمْتِ…
وَكانَ ذلكَ اليومُ أشبَهُ بِغَمامةِ صَيفٍ سُرعانَ ما انقشَعتْ، وعادَتْ الطفلةُ تَلعبُ بِفَرحٍ، وعادَتْ السعادةُ من جديدٍ ترفرفُ على ذلكَ البيتِ الصغيرِ المفْعَمِ بالمحَبّةِ والفَضيلةِ.
* * *
ومَرّتْ أعوامٌ، وشاءَ القدرُ أن يُسدّدَ سِهامَه إلى تلكَ الأُسرةِ، فَقدْ أُصيبَ الشابُ بوعكةٍ أسلَمتهُ إلى فراشِ المرضِ..
وتَمرُّ الأيامُ، وتَسوءُ حالَةُ الشابِ الصحّيةِ، حتّى خِيفَ عليهِ، واستَسلمَ الجَميعُ إلى قَضاءِ اللهِ.
وفي لَيلةٍ من ليالي الخَريفِ، بَدا الشابُ وكأَنّه يُودّعُ الحياةَ.. جَلَس الشَيخُ عِنْدَ رأسِه، والتَفتَ إلى ابنتهِ يُواسِيها قائِلاً:
ـ هذهِ أرادةُ اللهِ يا ابنتي.
ضَمَّت الفتاةُ ابنتَها إلى صَدرِها واستغرقَتْ في البُكاءِ.
وطافَتْ في خَيالِ الفَتى ذكرياتٌ وصورٌ قديمةٌ يومَ فرَّ من المدينةِ، ويومَ اعتقلوا أباهُ، ويومَ ودّعَ والدتَه.. التفتَ إلى ابنتهِ وراحَ يتأمَّلَها بحزنٍ وعطفٍ وكـأنَّه يودِّعُها، وانتقلَ بِبصرِهِ إلى زَوجتهِ ورَمقها بنظرةٍ تحملُ كلَّ معاني الحبِّ.. ثُمَّ نَظرَ إلى الشَيخِ، فأشارَ إليهِ أنْ يَدنُو، فَدنا الشَيخُ وَهو يَشعرُ الإشفاقَ والأسَى، قالَ:
ـ هَلْ تَشْعرُ بالرَاحةِ يا وَلدِيَ؟
قالَ الشَابُ:
ـ نَعم يا عمُّ.. لكنِّي أُريدُ أنْ أحدِّثُكَ قَبلَ أن أَلقى رَبِّيَ، وتَسارَعتْ أنفاسُ الفَتَى وَهو يقولُ:
ـ لقَد جِئتُكَ غَريباً، فآويتَني وأكرَمتَني.. وزوَّجتَني خَيرَ البناتِ.. فَشَكرَ اللهُ لَكَ ذلِكَ. وإنِّي أُريدُ أنْ أبوحَ لَكَ بِسرِّي الذي طَويتُه عَنكُم سَنواتٍ..
أصْغَى الشَيخُ إلى كَلماتِ الفَتَى الذي راحَ يَقولُ:
ـ يا عَمُّ.. أنَا القاسِمُ بنُ مُوسَى بنُ جَعفَرٍ بنُ مُحمَّدٍ بنُ عَليٍّ بنُ الحُسينِ بنُ عَليٍّ بنُ أبي طَالبٍ.
وَهُنا بَهُتَ الشَيخُ كأنَّ صاعِقَةً نَزَلتْ بهِ فَهبَّ واقِفاً ولَطمَ رأسَهُ قَائِلاً:
ـ بِماذا أُقابِلُ غَداً جَدَّكَ رَسولُ اللهِ يا وَيلَتاهُ.. إذْ لَم أَقُم بِحقِّكَ!
أجابَ الفَتَى بِصوتٍ واهنِ:
ـ بَل لَكَ الفَضلُ…
ثُمَّ قالَ:
ـ لَقد اقتربَ الأمرُ، وأحَسَّ بِدنّو الأجَلِ، وأحَبَّ أنْ أُوصيَ، قالَ الشَيخُ وَهُو يُكفْكِفْ دُموعَه:
ـ قُلْ يا بنَ رَسولِ اللهِ.
ـ يا عَمُّ، إذا أنَا مِتُّ فَادفِنِّي أرضَكُم، واُكتُبْ على قَبرِيَ: هذا قَبرُ الغَريبِ ابنِ الغَريبِ، القاسمُ بنُ موسى بنُ جَعفَرٍ… وإنْ رَزَقكَ اللهُ الحجَّ فاصطَحِبْ ابنَتِي مَعكَ، حَتّى إذا زُرت قَبرَ جَدِّي رَسولُ اللهِ فَخُذْ ابنَتِي إلى دارٍ عَاليةٍ تَسْكنُ فِيها الأراملُ واليتامَى الذينَ قَتَلَ أوْلياءَهُم هارونُ…
والتَفَتَ الشَابُ إلى ابنَتهِ وقالَ:
ـ فإنْ رأيتِ جدَّتكِ فاقرئيها عَنِّي السَلامُ، وبَعدَ لَحظاتٍ أغْمَضَ الشَابُ عَينَيهِ وعَرجَتْ روحُه إلى الملأ الأعلى..
ومِثلُ شَمعةٍ انطفأتْ حَياةُ ذلِكَ الفَتَى مِن آلِ النَبيِّ6، بَعيداً عَن وطنِهِ وأحبَّتهِ.
* * *
وجاءَ موسِمُ الحجِّ وشَدَّ الشَيخُ الرِحالَ إلى مَكةَ المكرَّمةَ، وبيتِ اللهِ الحرامِ..
وبَعدَ أداءِ مناسكَ الحجِّ اتجهَ نَحوَ المدينَةِ المنوَّرةِ، وقَصَدَ تِلكَ الدارِ…
تَركَ الشَيخُ حَفيدَتَهُ تَتجهُ إلى الدارِ، وظلَّ يُراقبُ عن بُعدٍ.
تَقدَّمت البنتُ مِنَ البابِ، وطَرقَتْ بِهدوءٍ، ووقَفَتْ تَنْظُرُ، وبَعدَ لحظاتٍ فُتِحَ البابُ، وظَهَرتْ امرأةٌ مُسنَّةٌ وَضيئةُ الوَجهِ رَسَمتِ الأيامُ على وَجهِها آثارُ سَنواتٍ صَعبةٍ، وكأنَّ الأقدارُ كانَتْ تنسجُ مُنذُ سنِينَ خُيوطاً، تأمَّلتْ المرأةُ وجهَ البنْتِ بِحنَانٍ؛ لأنَّها كانَتْ تَرى وَجهَ القاسمِ في طفولَتهِ فَسألَتْها بعَطْفٍ وحُبٍّ:
ـ مَنْ تَكونِينَ يا صغِيرَتي؟!
فَانْدَفَعتَ البِنْتُ بِشعُورٍ غَريبٍ إلى مُعانَقتِها وَهيَ تَقولُ:
ـ أنَا بِنتُ القاسِمِ بنُ موسَى بنُ جِعفَرٍ.
هَتَفتْ المرأَةُ:
ـ وَلدِيْ.. أينَ القاسِمْ؟!
أجَابَتْ البِنْتُ بِلوعَةِ اليَتامَى:
ـ تَركْتُهُ بِديارٍ مزجة…
وكأنَّها تَحوَّلتْ الكلماتُ إلى سِهامٍ تَغوصُ في قَلبِ الجدّةِ الكسِيرِ، فَسَقطَتْ عَلى الأرضِ مُودِّعةً الحياةَ.
* * *
وَهنا سَكتَ الجدُّ عَنْ الحَديثِ ورَاحَ يُغمْغِمُ بِصوتٍ حَزينٍ:
أفَاطِمُ قُومِي يا ابنَةَ الخَيرِ وأنْدُبي
نُجومُ سَماواتٍ بأرضِ فَلاةِ
قُبورٌ بِكوفانَ وأُخرى بِطَيَبةٍ
وأُخرى بِفَخٍ نالَها صَلواتِ
وقَبرٌ بأرضِ الجُوزَجانِ مَحلُّها
وقَبرٌ بِبا خَمْرَىٰ لَدَى الغُرباتِ
وانْتَهَتْ قِصَةُ الجَدِّ، وكانَ الجَمْرُ في الموقِدِ يَخْبُو شَيئاً فَشَيئاً.. ومِثْلُ ضُبابَ شَفيفٍ غَشَى النُعاسُ عيونَ الأطفالِ الحالِمَةَ، فَأسرَعَ الجدُّ بِدَسِّهم في حَنايا الفِراشِ الدَافئِ..
بَينَما استمرَ المطرُ بالإنْهِمارِ…