الرحلة رقم 444 طهران .. تبريز
كانت المرّة الثانية بالنسبة لي على الاقل، أن يتقرر سفري بالطائرة، ولقد أثار ذلك في خاطري كثيراً من الهواجس التي يمكن القول أنها مشوشة بين توجس، وقدر من القلق.. فالتحليق بين السماء والأرض أمر لا يبعث على الطمأنينة.
هل من الضروري أن أذكر انني سافرت بالطائرة قبل أكثر من خمسة عشرة سنة؟ وهذه المدّة كافية فيما يبدو لأن تلغي أية تجربة مخزونة كنت قد اكتسبتها.. وعلى كل حال كان كل شيء يسير باتجاه الرحلة الثانية حركتي وحركة الزمن، وحركة الاصدقاء الذين ارافقهم، وأغلبهم يسافر للمرّة الأولى أو تنتابه مثلي هواجس هذا النوع من السفر.
ها أنا أعثر مع رفاقي على مقاعدنا المخصصة في الطائرة الجاثمة، والتي بدت كطائر اسطوري يتأهب للانطلاق بهذه المخلوقات الآدمية.. المخلوقات التي تحمل ما يثقلها من الاحلام والأماني والآلام..
هدير المحرّك يهز بشكل نفاذ كل الخلايا، وبدأت عيناي تستكشفان هذا المخلوق الالمنيومي العملاق..
قد يتصرف المرء بطريقة تفضح ما يموج في اعماقه من مشاعر، بدأ بعضهم يعلّق دون مناسبة على بعض الاشياء، ربما ليطرد وساوس القلق التي بدأت تشتد في داخله..
وربما قال أحدهم جملة لا تعني شيئاً، ولكن جاره يتلقفها بحرارة ويتظاهر بالانفعال مرحاً من أجلها.
وابتسمت بدوري لأننا نحن المخلوقات الآدمية لا نعجز عن ايجاد بعض الوسائل في التخلص من افرازات القلق وهواجس الخوف..
قال صاحبي لصاحبه الذي يجلس قرب الباب:
ـ يالك من محظوظ! تستطيع القفز في اللحظة المناسبة عند الخطر وضحك صاحبه متظاهراً بانه يتجاوب مع هذه المجاملة، والتي استطيع أن اجزم أنها قد اثارت مخاوفه..
اما أنا فقد كنت اتوقع بان الطائرة تتحرك على مدرج المطار وعندما نظرت من النافذة البعيدة عني كانت المرئيات ما تزال ثابتة وعرفت ان مسألة الحركة باتت مرتبطة فقط بما أراه خارج الطائرة..
ما يزال هدير المحرّك يهزّ الخلايا ويثير المخاوف…
يفقد المرء في مثل هذه الحالات توازنه، ويبذل جهداً جبّاراً في السيطرة على كيانه.. حتى انه لا يعرف ماذا عليه أن يفعل هل يتحدث؟ هل يكتفي بالنظر عبر النافذة؟ أم يطقطق اصابعه؟!
لعل المسبحة وترديد بعض الكلمات أو آيات القرآن قد انعش في أعماقي معنوياتي التي باتت تهتز بفعل الهدير المتواصل..
وكان شابّ يجلس الى جانب امّه ويبدو من خلال تصرّفه انه سافر كثيراً بالطائرة وانه صاحب تجربة عريقة ولعله كان يريد أن يوحي للآخرين ذلك، فقد كان يتصرّف بطريقة بعيدة عن الذوق، يلعب بازرار كرسيّه أو ينهض ليضغط على زرّ فينسكب الماء في قدح أو يتحدث مع والدته العجوز يقترح عليها أن يضع بعض أغراضها في الصناديق المخصصة..
وعلى يساري لمحت فتاة في حوالي السادسة عشرة من ربيع العمر مقبلة على الحياة بأمل كبير.. يتألق ذلك في عينيها النجلاوين أخرجت من حقيبتها ورقة وحاولت أن تفتح موضوعاً مع جاري المعمم حول محاولتها الشعرية.
انطلق صوت المضيفة بالفارسية ثم بالإنجليزية معلناً اقتراب لحظة الاقلاع وشدّ الاحزمة، وسادت حالة من التوتر على الأقل فيما يخصّني واستطيع أن أقول أن هذه الحالة قد غمرت جاري ورفيقي..
مثل طائر اسطوري بدت الطائرة وهي تتحرك على مدرج المطار.. كنت انتظر لحظة الاقلاع.. وتحفزّت ودهمتني صورة للحظة العروج.. وارتسم سؤال مثل فقاعة.. ترى كيف ستكون اللحظة القادمة عندما تعرج الروح؟! عندما ارتفعت الطائرة انخفض الضغط، وجرفتني للحظات فقط مشاعر فيها قدر من غيبوبة لذيذة..
بالرغم من الهمهمة، وصوت ربما كان صوت المحرّك، كنت اشعر بالصمت كعابد في محراب في ذروة جبل..
لقد جرّبت الصمت في اطلال مسجد في جبل الخضر[1] وادركت كيف ان الصمت يفجر كل المكنونات في طوايا الاعماق حيث تموج آلاف الرغبات وتعتمل ملايين الخواطر.
ففي كل مرّة ينبعث نبع الحب.. الحب الخالد الذي يتدفق من نقطة ما لا أدري اين.. ولكن وفي كل مرّة تجتاحني فورة الحبّ كنت انظر الى السماء من بين الغيوم التائهة المبحرة الى نقطة مجهولة..
وودت لو استطيع استعادة كل اللحظات لانقلها على الورق فوراً، ولكن ذلك لن يتيسر..
كان منظر الغروب سخياً جداً بألوانه البرتقالية والذهبية والحمراء حيث اتقدت السحب المتراكمة في الافق بلون يشبه جمر المواقد الشتائية..
ارتفعت الطائرة اكثر واحسب أنها وصلت الارتفاع المطلوب والذي اعلنت عنه المضيفة 28000 قدم فوق سطح البحر.. انتهزت فرصة انشغال رفيقي بحديث مع جاره، وانسحبت الى داخلي..
ها أنا بين السماء والارض.. وسلاسل الجبال تمرّ اسفل مني.. حتى السحب التي اعتقدت رؤيتها فوقي تمرّ الآن الى جانبي أو تحتي كسفن مبحرة..
السماء اكثر زرقة، وصفاءً..
بدت الطائرة سفينة متوقفة.. تلاشت الاشياء التي اعتمدها في اكتشاف الحركة والاحساس بها.. كل شيء نسبي.. ليس هناك من مطلق في وجود تحكمه الحركة.. اننا نكتشف الحركة من وجود اشياء حولنا.
تلاشى هدير المحرك كما اختفت للحظات تضاريس الجبال وبدت النافذة البيضوية الشكل فصّاً أزرق اللون..
ان من يكتشف وجوده في تلك اللحظة لن يصدّق أبداً أنه داخل جسم يتحرك بسرعة الف كيلو متر في الساعة..
وتداعت في افكاري ولثواني معدودة بعض ما قرأته عن النظرية النسبية والتي يكفي ذكرها أن نذكر انشتين والبعد الرابع في الاجسام وهو بعد الزمن[2] وحول نسبية الحركة، حتى الاحساس بالسرعة يتبدد تماماً في الطيران على ارتفاعات شاهقة..
واظن ان محنة الانسان تبدأ عندما تصبح قناعاته وهي نسبية في الغالب معتقدات مطلقة لا تقبل النقاش فضلاً عن التغيير!
الفتاة ذات الستة عشر ربيعاً.. فتحت موضوعاً للحوار مع جاري واطلعته على مقطوعة شعرية كتبتها..
لم اسمع سوى اطراف من الحوار، والقيت نظرة فضول عن بعد على الكلمات الشاعرة، لا رى كيف يفكر المرء بهذا العمر..
كانت ابيات باللغة الفارسية حول ظلمة الغار الذي سطعت فيه أنوار السماء.. صور بسيطة تشف عن استعداد للشاعرية كما ذكر ذلك شاعر كان يرافقنا واستعان به جاري في تقييم المحاولة المراهقة..
ما زال ذلك الشاب الذي يرافق والدته يقوم ببعض الحركات التي تنمّ عن تجربة في السفر جوّاً..
ارتجت الطائرة قليلاً.. دخلت مطبّة هوائية.. انبعثت المخاوف من جديد.. هل يحدث الذي نخشاه.. وهل نتحول الى «مانشيت» أو خبر في الصحافة!!
مرّت غيمة صغيرة شفافة تكاد تتلاشى، ظهرت في الافق البعيد سفوح جبلية غطتها ثلوج خريفية مبكّرة..
انني اسجّل ما رأيته في تلك اللحظات، ولكن مشاعري كيف كانت لاشك انني كنت أرقب الأرض.. وطفت فجأة فكرة الأرض: أمّنا الرؤوم.. مهد الانسان.. فيها يشعر الانسان بالطمأنينة، وانبعثت في خاطري رائحة الأرض النديّة التي لا اتذكر أين صادفتها، ولكني ولأول مرّة تمنيت أن أغفو فيها، وأن يضمّني ثراها المعطور..
الفتاة ذات السادسة عشر من العمر ما تزال تحاور جاري.. ربّما حول الشعر والأدب وفن الجمال، أو هكذا كان تصوّري على الاقل من خلال بعض المفردات الفارسية التي التقطتها أذني..
عاودني الشعور بالطمأنينة، وغمرتني حالة وجدانية مفعمة بالسلام.. ولعلّ جاري الآخر قد غادرته حالة الترقب فقد أخرج كتاباً من حقيبته وراح يتصفحه على مهل.
حتى تلك اللحظة لم يفلح الشاب في اقناع والدته التي بلغت من العمر عتيّاً بأن يحفظ لها متاع الطائرة.. كانت تتشبث به كطفل؟
إن العمر المديد لا يزيد الانسان وعياً ولا يوحي اليه بانتهاء رحلته في هذا الكوكب.. وأنّ عليه أن يتصرّف كمن دنت ساعته في الرحيل الى عالم آخر.
انني اشعر بالعجز، وأنا احاول استرداد طوفان المشاعر والافكار التي تموّجت في اعماقي. لكأن حالة التوتر والتوقّد التي انطفأت مع اعلان المضيفة باقتراب لحظة الهبوط في مطار تبريز قد بدّدت ذلك التيار المتدافع من الاحاسيس.
على أن حالة من الصوفية ظلّت تغمر كياني، وقد هبطت الطائرة في مدرج المطار، وبدأ كل شيء ينتظم في مساره العادي الحركة، السرعة، الانشداد الى الأرض.. وشيئاً فشيئاً أظهرت رؤوسها الرغبات والغرائز بعد خمسين دقيقة من الانزواء والانسحاب تحت ظغط المشاعر الانسانية.. عندما يجد المرء نفسه على حافات النهاية الغامضة.. أو هكذا يوحي الى نفسه.
كمال السيّد
[1] جبل الخضر على بعد حوالي ميلين جنوب مدينة قم وتوجد في قمة الجبل خرائب مسجد صغير يعود تاريخه الى اكثر من قرن.. واصبح المكان محطّة للمسافرين برهة من الزمن، وعلى السفوح القريبة من الجبل خرائب قرية صغيرة كان اهلها يعملون في استخراج النحاس الذي توجد خاماته بوفرة في تلك المنطقة.
تاريخ وجغرافيا قم / 63، 64، 220.
وقد اعيد ترميم جانب من المسجد في الآونة الاخيرة، وكنت اتردد اليه قبل ذلك وشاهدت في محرابه آثار كتابات غير واضحة، وكان المحراب مفتوحاً ويطلّ على واد غارق في السكينة والصمت، حتى انني ظننت ولفترة قصيرة ان الفيلسوف الايراني ملا صدرا قد اعتزل في هذا المكان وكتب فيه اسفاره المعروفة.. ثم عرفت فيما بعد انه قد اعتزل في جبل في قرية «كهك» وهي في ضواحي قم أيضاً.
اما مسجد الخضر فقد بناه أهالي قم على أساس اعتقاد شعبي في مشاهدة سيدنا الخضر في هذا المكان.
[2] الفيلسوف الايراني ملاّ صدرا هو أول من أعلن بان الزمن بعد كمي للاجسام والبعد الرابع فيه، وهو مقدار الطبيعة المتجددة بذاتها من جهة تقدمها وتأخرها الذاتيين، وهو أمر ممتد وكمي ذلك إن «جميع الموجودات التي في العالم واقعة لذاتها في الزمان والتغيّر، مندرجة تحت مقولة «متى» كما انها واقعة في المكان مندرجة تحت مقولة «أين»…».
فالزمن بعد اصيل في الجسم وهو ليس علّة للحركة كما ان الحركة ليست علّة له..
وهذه الافكار وردت في نظريته المشهورة: «الحركة الجوهرية».
الاسفار الاربعة: 7/293، 3/110.