طريق في السماء

قصة حول دعاء كميل

كانت ليلة صيف مقمرة… ليلة جمعة.. محمود يحب هذه الليلة جدّه يصطحبه إلى المسجد .. بعد صلاة العشاء وبعد إلى يؤدي المصلّون الصلاة يجلسون في صفوفهم للدعاء يدعون الله سبحانه الخالق الرحيم أن يغفر لهم خطاياهم ويرزقهم.

وتنساب من منار المساجد والجوامع كلمات عذبة تحلّق في السماء الصافية الزافرة بالنجوم.

ـ اللهم أني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء وبقوتك التي قهرت بها كل شيء وذل لها كل شيء وبعزتك التي لا يقوم لها شيء وبعظمتك التي ملأت كل شيء وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء وتنساب الكلمات رفيقة كساقية قادمة من نبع في الوادي الأخضر الجميل.

أسألك يا إليه برحمتك التي غمرت كل الأشياء في هذا الوجود المترامي.

أمدّ يدي أسألك واستعطفك وأتفرع في حضرتك يا واحد يا أحد.

يا خالق الوجود وواهب الحياة.

هذه السماوات المليئة بملايين النجوم مصابيح تضئ الطريق إليك.. تفيء الطريق إلى السماء.. التفت محمود إلى جدّه رأى الدموع تموج في عينيه تنعكس فيها أضواء المسجد الملوّنة.

انتهت مراسم الدعاء قال الجدّ لحفيده في طريق العودة.

ـ يا بني يا محمود لهذا الدعاء قصّة سأحكيها لك قبل محمود يد جدّه أنه يحب جدّه كثيراً خاصّة بعد أن سافر والده ذات يوم ولم يعد.. هكذا قالوا له.. أحياناً يسمع رفاقه يتهامسون.. لكن ما أن يصل حتى يقطعون كلامهم.. حدس أنهم يتحدثون عنه أو عن والده.. وعندما قال لاُمه.. دمعت عيناها لهذا قرر أن لا يفتح هذا الموضوع ربت الجدّ على كتفه مسح على رأسه بحنان وقال:

ـ يا محمود هذا الدعاء يسمى دعاء كميل.. وكميل رجل صالح كان من أصحاب الأمام علي (ع) خليفة في بلاد الإسلام.

سيدنا محمد (ص) يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها. كان أمير المؤمنين علي عالماً كبيراً قال مرّة.

علمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح عن كل باب ألف باب.

كان أمير المؤمنين يعلم أصحابه ما داموا يحبون العلم والتعلّم.

ذات يوم أخذ الإمام علي بيد كميل بن زياد إلى خارج الكوفة كان الوقت ليلاً والسماء مليئة بالنجوم فسمات منعشة تهب من ناحية الشمال.

نظر محمود إلى السماء المليئة بالنجوم واستنشق نسائم طيبة تهب من جهة الشمال وراح يصغي إلى جدّه.. قال الجدّ.

ـ قال له أمير المؤمنين.

يا كميل أن هذه القلوب أوعية فخبرها أو عاما فأحفظ عني ما أقول: الناس ثلاث:

عالم ربّاني.

ومتعلّم على سبيل نجاة.

وهمج رعاع أتباع كل ناعق.

يميلون مع كل ريح، لم يستفيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

يا كميل: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال. المال تنقصه النفقة والعلم يزكو (ينمو) على الأنفاق.

يا كميل! هلك خزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر.

قال محمود:

ـ هل ألف كميل هذا الدعاء!

قال الجدّ:

ـ كما قلت لك أنه له قصّة.

دعاء الخضر

كان أمير المؤمنين علي (ع) جالساً في مسجد البصرة ومعه جمع من أصحابه! فسأله أحدهم عن تفسير قوله تعالى <فيها يفرق كل أمر حكيم>.

فقال الإمام علي (ع) هي ليلة النصف من شعبان (ليلة 15 شعبان) ثم أقسم الإمام قائلاً، والذي نفسي بيده ما من عبد إلا وجميع ما يجري عليه من خير أو شرّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة وما من عبد يحيها ويد عديد بدعاء الخضر (ع) إلا استجيب له.

انفض المجلس، وانصرف الجميع.

وعندما حل المساء وانتشر الظلام وأدى الناس إلى النوم جاء كميل بن زياد إلى الإمام وفي قلبه سؤال:

قال له الإمام:

ـ ما جاء بك يا كميل؟

قال كميل:

ـ يا أمير المؤمنين وعلى الخضر

قال الإمام (ع):

ـ اجلس يا كميل

ثم قال له:

ـ إذا حفظت هذا الدعاء فادعه به كل ليلة جهة.. اكتب استعد كميل للكتابة وراح الإمام يملي عليه كلمات الدعاء ذلك اشتهر الدعاء وعرف بـ (دعاء كميل).

قال الجدّ: يا محمود حاول أن تقرأ هذا لدعاء في ليالي الجمعة عندما تشرق النجوم في السماء.. سوف يشرق الإيمان في قلبك ويقيء لك طريق الحياة كما أضاء الطريق للشهيد كميل بن زياد.

تساءل محمود

ـ وهل كان شهيداً

قال الجد:

ـ نعم يا بني! عندما استشهد الإمام علي في محراب الكوفة فعاقب على الحكم وكان ظالمون لا يرحمون الطفل الصغير ولا الشيخ الكبير… وعاشت الكوفة فتره عصيبة كان الناس يعيشون جحيم لا يطاق.. الحكام يطاردون أهل التقوى والصلاح من إتباع أهل البيت وأنصارهم.. كانوا يقتلونهم ويسجونهم.

جاء إلى الحكم في الكوفة زياد بن أبيه ثم ابنه الطاغية عبيد الله بن زياد الذي ارتكب مذبحة كربلاء الدامية فقتل ابن رسول الله الحسين وأهل بيتهG وأنصاره.

ثم جاء الحجاج بن يوسف الثقفي فكان أبشع من حكم العراق وفي عهده امتلأت السجون والمعتقلات بالرجال والنساء والأطفال، كان في سجونه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة ولم تكن للسجون سقوف تحمي السجناء من الحرارة في الصيف ولا من الطرف الشتاء وكانت وجوه السجناء تصبح سوداء بعد مدّة فيصبحون مثل الزنوج.

ذات يوم جاءت امرأة لزيارة ابنها وقد مرّ على اعتقاله شهور لم تره خلالها.

عندما رأته أنكرت أن يكون ابنها وقالت.

ـ أنه ليس أبني.. أن ابني ابيض الوجه وهذا فتى زنجي لا أعرفه ولكن الشاب ذكرها وأراها بعض العلامات وعندما تأكدت بأنه ابنها خنقتها العبرة وأصيبت بالسكتة القلبية وتوفيت.

الثورة:

كان أكثر حقد الحجاج منصبّاً على أهل البيت وعلى أنصارهم لهذا السجون بالأبرياء لا لذنب سوى حبهم آل النبي (ص) ضجّ الناس من ظلم الحجاج وطلبوا من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عزل ولكنه كان يرفض، لأن الحجاج كان يعمل على توطيد حكم بني أمية بالحديد والنار.

كان الحجاج في غاية الخبث إذ قام بشنّ الحروب على الدول المجاورة بحجة فتح البلدان وكان يجبر الناس على الانتقام والالتحاق بالجيوش الغازية لكي يضرب عصفورين بحجر وأحد فهو من جهة يحصل على الغنائم وتتوسع البلاد التي يحكمها كما أنه سوف يتخلص من معارضيه في الحكم.

أرسل الحجاج جيشاً بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث لغزو بلاد الترك وكانت حكم ملك يدعى رتبيل.

تقدم عبد الرحمن بجيشه متوغلاً في بلاد الترك وانتصر في بعض المعارك: وبعد مدّة أرسل رسالة إلى الحجاج يطلعه فيها بإيقاف التقدم لكي يستريح المقاتلون أضافه إلى دراسة الخطط للمعارك القادمة والتقليل من هجم الخسائر في الأرواح.

وجاء جواب الحجاج مليئاً بالشتائم طالباً من عبد الرحمن بن الأشعث استئناف الزحف العسكري والتوغل أكثر فأكثر في بلاد الترك.

القرار الحاسم:

أدرك عبد الرحمن أهداف الحجاج أنه يريد إبادة المسلمين في معارك خارج الحدود وأن هدفه ليس نشر الإسلام بل الحصول على اكبر قدر من الغنائم وكذلك التخلص من معارضيه السياسيين.

لهذا عقد اجتماعاً مع قادة الجيش وكبار الضباط وأطلعهم على جواب الحجاج.. ودارت حوار ونقاش أدى إلى اتخاذ قرار بالإجماع بعزل الحجاج وتحرير العراق من سيطرته.

معارك التحرير

قاد عبد الرحمن جيشه باتجاه العراق معلناً الثورة وأنضم إليه الكثير من الناقمين على الحجاج وعلى النظام الأموي الغاشم.

وكان في طليعة الثوار قرّاء القرآن وأساتذة التفسير وقد أتف القرّاء كتيبة بقيادة التابعي كميل بن زياد وانتفضت بعض المدن تأييداً للثورة أملأ بالخلاص من الظلم فكانت مدينة الكوفة في طليعة المدن الثائرة.

وصل عدد الثوار أكثر مئة ألف مقاتل وقد ضم جيش عبد الرحمن أعداداً كبيرة من قرّاء القرآن ومفسريه ومن الشعراء والفقهاء والأدباء وكان نصف الثوار من الموالي أي السكان غير العرب الذين كانوا يعانون الأمرّين من السياسة العنصرية الأموية.

لقد كان الأمويون يحتقرون ويمتهنون المسلم غير العربي نبي رسول الله2 يعلن صراحة لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

وكان من ضمن الثوار التابعي الكبير سعيد بن جير وقد أثار وجود موجة من الحماس في صفوفهم وأعلن الثوار خلع الخليفة عبد الملك مروان الذي نصب الحجاج وانتهاجه سياسة البطش والقتل وسفك الدماء.

في سنة 81 هـ سنة 700 م، اصطدم جيش الثوار بقيادة عبد الرحمن مع الجيش الأموي وكان النصر حليف الثائرين، وتم تحرير العديد من المدن والأقاليم من قبضة النظام الأموي فقدتم تحرير سجستان (افغانستان) وكرمان والبصرة والكوفة.

فشل المفاوضات

أرسل عبد الملك مبعوثاً خاصاً للتفاوض وعرض على الثوار فرد الحجاج من منصبه مقابل وقف العمليات العسكرية.

لكن الثوار الذين ذاقوا حلاوة الانتصار على الظلم والحرّية والخلاص من الاستبداد رفضوا ذلك وأعلنوا مرّة أخرى خلع عبد الملك من الخلافة وحمّلوه مسؤولية ما قام به الحجاج من الجرائم.

أرسل عبد الملك بن مروان تعزيزات عسكرية لمساندة جيش الحجاج كما انضمت القوات العسكرية المرابطة في خراسان إلى الجيش الأموي بقيادة الحجاج.

دير الجماجم

وفي منطقة تدعى <دير الجماجم> التقى الجيشان ودارت معارك طاحنة انتهت بانتصار الجيش الأموي وتشتت قوات عبد الرحمن بن الأشعث.

فرّ الكثيرون واستشهد الكثيرون ولجأ عبد الرحمن إلى ملك الترك <رتبيل>.

النهاية

اختفى عن الأنظار كثيرون ممن اشتركوا في الثورة وفي طليعتهم سعيد بن جير الذي هرب إلى مكة وكذلك كميل بن زياد الذي كان يتنقل هنا وهناك.

وشنت أجهزة حكم الحجاج حملات مطاردة واعتقل الكثيرون حيث واجهوا أحكام الموت بشجاعة وإباء.

النهاية

ظل كميل بن زياد بعد معركة <دير الجماجم> يعيش حياته بعيداً عن عيون الجواسيس.

كانت شرطة النظام تبحث عنه في كل مكان.

اتبع الحجاج أسلوباً آخر في القبض عليه فأمر بمضايقة قبيلته اقتصادياً فحرمت من التخصيصات المالية وساءت حالهم الاقتصادية والمعاشية وعندما رأى كميل ما حلّ بقبيلته قرّر تسليم نفسه في صباح أحد الأيام شوهد كميل يسير بوقار إلى قصر الحجاج بن يوسف.

وألقي القبض عليه.. وعومل معاملة قاسية وبالرغم من شيخوخته لقد بلغ التسعين من عمره كان يسير مرفوع الرأس ورجال الشرطة محدقين به كالكلاب المسعورة.

الذكريات

تذكر كميل وهو بير نحو مصيره بخطر ثابتة.. تذكّر الأيام الجميلة مع معلمه وقائده وإمامه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

تذكّر يوم كان يحارب جندياً تحت رايته.. حارب الناكثين وحارب القاسطين وحارب المارقين في الجمل و<صفين> و<النهروان> واستمر يحارب الظالمين تذكّر يوم قاد جيشاً مؤلفاً من أربعة مقاتل لصدّ الغارات التي كان يشنها جيش معاوية على الجزيرة في شمال العراق فيصدّ العدوان ويطارد الغزاة حتى قرقيسياً وتذكّر رسالة الإمام علي (ع) يؤنبه فيها على الإمعان في المطاردة معرّضاً الحدود والجنود للخطر.

في مواجهة الطاغية

أدرك الجميع لماذا سلّم كميل نفسه؟ كان كميل بن زياد إنساناً مؤمناً نبيلاً كان يحب الناس ويحب لهم الخير وعندما رأى ما حل بأهله ورأى عربهم وجوعهم قرر أن يسلّم نفسه.. أراد أن يدخل الفرحة في قلوبهم بإلغاء الحصار الاقتصادي المفروض عليهم. تذكر ما قاله الإمام علي (ع) ذات يوم:

ـ ما من أحد أودع قلباً سروراً إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً فإذا نزلت به نائبة (مصيبة) جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها كما تطرد غرائب الإبل أن الإنسان يدفع البلاد وإدخال السرور في قلوب الناس له ثواب عظيم لا يعرف مقداره إلا الله سبحانه دخل كميل بوجهه المقيئ ولحيته البيضاء كان يشعر بالطمأنينة والسكينة بالرغم مما كان ينظره.. أن قلب المؤمن أقوى من الجبل.

كان الحجاج جالساً وقد اصطف الحرس حوله ووقف الجلاد ينتظر الأوامر.

كان كميل يعرف أن الحجاج سوف يقوم بقتله وقد اخبره بذلك أمير المؤمنين عن النبي (ص).

قال كميل:

ـ لقد اخبرني سيدي أمير المؤمنين علي بأنك قاتلي فاقض ما أنت قاض يا عدو الله! وأعلم أن بعد القتل الحساب.

قال الحجاج:

ـ تبرأً من علي لتنجو من الموت.

جل كميل بصلابة الجبل:

ـ دلّني على دين أفضل من دين علي.

أن البراءة من علي يعني البراءة من الإسلام دين الفطرة والإنسانية والعدالة.

سكت الحجاج لم يستطع أن يقول كلمة واحدة لأن المسلمين جميعاً يعرفون أن علياً هو أول من آمن بعد السيد خديجة الكبرى زوجة النبي (ص) فكان أول الرجال إسلاماً أشار الحجاج إلى الجلاد فتقدم بسيفه الغادر توجه كميل نحو الكعبة بيت الله الحرام ورمز التوحيد وراح يردد كلمات تعلمها من أمير المؤمنين (ع) .

وما هي إلا لحظات حتى هوى شيخ في التسعين من عمره شهيداً وقد تخضبت لحيته البيضاء بلون أرجواني.

واليوم يشاهد الزائر في وادي السلام من أرض النجف ربوة ينهض عليها ضريح الشهيد بقبته الجميلة تفوح في ظلالها عبير العطور الربيعية.

وفي ليلة الجمعة من كل أسبوع تحلّق كلمات عذبة خاشعة تطوف السماء الزافرة بالنجوم تذكّر الناس بذلك الشهيد العظيم الذي اقترن أسمه بالدعاء ليبقى ذكره خالداً مدى الأيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى