عذراء قم – فاطمة المعصومة
لك ان تتصور فتاة احبت اخاها حتي كاْن الدنيا ليس فيها سواه. ويحق لهل ان تتصور الدنيا ترتكز في وجودها الي وجود الانسان الإلهي الإنسان الذي ورث مقام الامامة عن جده وسمیه علي.
وفي تلك الليلة الشتائية، جلست فاطمة تحدّث من اجتمعن حولها التماساً لدفء الكلمات المقدسة… قالت فاطمة:
ـ حدّثتني فاطمة بنت جعفر بن محمد الصادق قالت:
حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت:
حدثتني فاطمة بنت الحسين بن علي قالت:
حدثتني أم كلثوم عن أمها فاطمة بنت النبي(عليه السلام) قالت:
«أنسيتم قول رسول الله(عليه السلام) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه… وقوله(عليه السلام): انت مني بمنزله هارون من موسى».
والتفتت فاطمة الى فتاة صغيرة تتألق في عينيها النجلاوين أقمار ونجوم:
اكتبي يا ابنة أخي. اكتبي حتى لا يضيع ميراث الانبياء.
سكتت فاطمة كانت تدرك ان هذا الاعصار القادم من مرو يريد اجتثاث علي.. علي الذي ما يزال يقاوم عواصف الزمن… علي الذي يخفق حبّه في قلوب الأحرار والمقهورين.
من أجل هذا قالت:
ـ حدثتني فاطمة بنت جعفر الصادق قالت:
حدثتني فاطمة بنت محمد الباقر قالت:
حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت:
حدثتني فاطمة بنت الحسين قالت:
حدثتني زينب بنت فاطمة قالت:
حدثتني فاطمة بنت رسول الله قالت: سمعت رسول الله(عليه السلام) يقول:«لما أُسري بي الى السماء، دخلت الجنة، فاذا أنا بقصر من درّة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلّل بالدر والياقوت،وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي، فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، علي وليّ القوم، وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ من مثل شيعة علي؟!
وانبثق شلال من حبّ الهي يملأ القلوب بهجة والنفوس شفافية.. ان الدنيا ستصبح جحيماً لا يطاق اذا اختفى ذلك الأمل الحقيقي بغد أفضل..غد آخر ملىء بالنور والربيع.
لن تستطيع فاطمة ان تتحمل أكثر من هذا، إن قلبها فى «مرو» في تلك المدينة من الشرق الاقصى… والأخبار القادمة من بغداد تبشر بالويل والثبور وأخوها يواجه الدنيا وحيداً ليس معه أحد…
الرسالة التى استلمتها أخيرا اكتسحت كل العراقيل التي كانت تحول دون سفرها.. فجرّت في أعماقها عزماً لن يقاوم!
لم تكن الرسالة موجهة الى فاطمة وحدها، وإن جاءت في ظاهرها شخصية.. ان الرضا يعيش محنته وحيداً، والعباسيون لن يهدأوا ما دام الرضا وليّاً للعهد…
انها تعرف أخاها.. لقد ودّع المدينة بالدموع… ان الرسالة إذن تشبه استغاثة يطلقهاا نسان مقهور.. انسان يحاول تصحيح مسار التاريخ!
قافلة فاطمة تحرّكت صوب الكوفة عبر طريق تخترق بعض المرتفعات الجبلية ثم صحراء «نجد» الى «رفحا» و«الكوفة»، لتجتاز الفرات صوب الشرق عبر مرتفعات «همدان» بعد منعطفات بين سلاسل جبلية شاهقة.
وهكذا بدأت القافلة وهي تحمل اثنين وعشرين علويّاً تتصدرها فتاة اسمها فاطمة وأخوة لها هم: هارون وفضل وجعفر وقاسم.
في كل قرية على الطريق أو مدينة كانت القافلة تتوقف وكانت فاطمة تتحدث عن مجد علي.. علي الذي أصبح اسمه راية للثورة، ومناراً للعدالة وعنواناً للكرامة والحرّية.
وعلى الذين ينشدون الغد الاخضر أن يلتحقوا بركب علي الذي انطلق في لحظة الفجر من محراب الكوفة.
قالت فاطمة:
ـ عن امنا فاطمة قالت: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «مكتوب على الستر: بخ بخ من مثل شيعة علي!!
وعن أمنا فاطمة: قال رسول(صلى الله عليه وآله وسلم): ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً…
وعن أمنا فاطمة قالت: «انسيتم قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خم: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه؟ وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنت منى بمنزلة هارون من موسى»؟!
آه يا يوم الغدير يا يوما من أيام الله! كيف سقطت من الذاكرة فضعت وضاعت معك كل الاشياء الجميلة؟ ويا عيداً ولدت شهيداً!
ألأنك صرت رمزاً ليوم الامام، وعيداً للإمامة؟!
كانت فاطمة غارقة في مأساة لا تعرف أسرارها… كيف أصبح الحق مقهوراً، ولماذا… ولماذا ينزلق البشر في طريق الشرور يبحثون عن السعادة في وديان مظلمة مليئة بالافاعي والحيّات؟!
وتجمعت الدموع فى عيني فاطمة.. تبكي من أجل اُمّة ما تزال تمعن في الضياع لتغرق في بحر الظلمات..
القافلة ما تزال تشق طريقها لتصل تخوم ساوة، ممعنة في أرض متموجة رسمت فيها القوافل المسافرة خطوطاً ملتوية.رياح تشرين الخريفية جرّدت بساتين الرمّان من خضرتها الزاهية، ومنحتها لوناً برتقالياً يميل الى الاحمرار.
كانت الأوامر الصادرة من «مرو» واضحة ومشدّدة تقضي بقطع الطريق على العلويين المتجهين الى خراسان.
وحدث ما كان متوقعاً فقد اصطدمت قوّات من الشرطة،بالعلويين واستبسل رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
كانت فاطمة تنظر بأسف وحزن الى مصارع الأحبّة هارون والقاسم وجعفر، والفضل وبعضاً من أولاد أخوتها.. وكان مشهداً كربلائياً.
وهوت فاطمة الى الأرض الملوّنة بدماء الابرياء.. وعندما فتحت عينيها وجدت نفسها وسط نسوة يذرفن الدموع كانت الشمس قد زالت، وصوت أذان بعيد ينساب حزيناً مؤثراً.. اشهد أن محمداً رسول الله…
قالت فاطمة بحزن:
ـ أين أنت يا جدّاه لترى ما حلّ بأبنائك؟!
وعندما أرادت أن تنهض للصلاة لم يقو جسمها النحيل على حمل روح تستعد للرحيل الى عالم بعيد عن ويلات الأرض وشرور الانسان.
هاهي الفتاة التي بلغت من العمر الثامنة والعشرين تقف وحيدة في منتصف الطريق بين «المدينة» و «مرو».. لا تستطيع العودة ولا تستطيع مواصلة الطريق…
وها هي الآن تذوي كشمعة في آخر ليلة شتائية طويلة..
وتوهجت في ذاكرة فاطمة أحاديث سمعتها في زمن الطفولة والشباب.. ما تزال تتذكر والدها عندما قال:
ـ «قم عش آل محمد، ومأوى شيعتهم».
وسمعت شقيقها يقول:
ـ «إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواصيها فإن البلاء مرفوع عنها».
وسمعته يروي عن جدّها الصادق:
ـ «تربة قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم، لا يريدهم جبّار بسوء إلاّ عجّلت عقوبته… مالم يخونوا إخوانهم.. فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء».
وأضاء في قلبها نور سماوي وتألقت كلمات جدّها الصادق وهو يقول: «إن لنا حرماً وهو بلدة قم وستدفن فيها إمرأة من أولادي اسمها فاطمة».
من أجل هذا تساءلت فاطمة وعيناها تتألقان بحزن سماوي:
ـ كم المسافة الى قم؟
ـ أربعون ميلاً.
قالت وقد اضاء قلبها قنديل أمل باللقاء:
ـ خذوني اليها.
وعندما وّلت القافلة شطرها الى «قم» كانت فاطمة تشعر انها تنطلق الى أرض طيّبة وربّ غفور..
كان جسمها النحيل يذوب تحت وطأة الحمّى، وأمّا روحها فكانت تسطع مثل كوكب درّي… وفي كل محطة في الطريق كانت تسأل عن بعض أخوتها الذين اختفوا بعد المعركة كانت تودّ أنهم يواصلون طريقهم الى مرو للقاء أخيهم…
ولكن الأخبار التي سمعتها لا تشجع، فقد انقطعت أخبار الرضا، وأخبار تتحدث عن أحزانه وعزلته، ومعاناة شيعته كلما أرادوا لقاءه!
إن قم مخزن الرجال الاشدّاء وعش آل محمد فلعلّها إذا وصلت تستطيع أن تفعل شيئاً من أجل أخيها الوحيد!
لم تكد القافلة الصغيرة تبلغ جبل الملح حتى انتشر خبر قدوم حفيدة محمد في مدينة قم… كفراشة تبشّر بالربيع كان الخبر البهيج يطوف منازل المدينة..
اجتازت القافلة جبل الملح على بعد عشرين ميلاً من قم لتحط رحلها في خان القوافل حيث تقع غربه المرتفعات المشرفة أما في الشرق فقد بدت فلاة منبسطة تنتهي عند سلسلة جبلية صغيرة.كانت فاطمة تنوء بجسمها ولكن إرادة لا تقهر تشعل في أعماقها تصميماً في الوصول الى الأرض الطيبة.
وسألت فاطمة بصوت خافت:
ـ كم بقى من الطريق.
واجابت فتاة كانت ترافقها:
ـ اميال معدودة يا سيدتي… وهذا الخان آخر محطّات الطريق!
واشتعلت في ذاكرتها الحوادث والأيام الماضية.. مشاهد قديمة وجديدة وكان آخرها المشهد الدامي على أبواب «ساوة» لقد شهدت مصرع الرجال الاوفياء.. احتراق الفراشات وسط اعصار فيه نار.. شهدت مصرع أخيها «هارون» اغارت عليه الذئاب البشرية وهو يتناول رغيفه «لقمة» يقيم بها أوده
استعداداً للجولة الأخيرة.
لكنها لم تر أخاها الفضل وجعفر!
وانبعث في قلبها أمل.. مثل ساقية تنثال مياهها على الضفاف.. مثل جدول عذب يهب رحيقه الفراشات والأزهار في طريقه..
خرجت جماهير «قم» تستقبل ابنة الرسالات الالهية، النساء والرجال كانوا ينتظرون ابنة الكاظم، وشقيقة الرضا ويتطّلعون الى الطريق.. طريق القوافل.. ستبزغ الشمس من الشمال!
واستند رجل اشعري الى جدار قلعة قديمة يعود تاريخها الى «انوشيروان».
وكان شيخ عربي سمع في شبابه أحاديث من الصادق.. أحاديث تشبه النبوءات يتطلّع الى الطريق وقد تراءت له مليئة بالبلّور..
لقد حوّلت الدموع في عينيه المرئيات الى بلور ولؤلؤ منثور! دموع لا يعرف تفسيرها.. دموع فرح أم دموع حزن.. فرح باستقبال ابنة الرسالة.. أم حزن لأولاد الانبياء.. تتوزعهم مدن الأرض هنا وهناك كبحر غاضب ينثر اللالىء والأصداف.. أو كسماء تبعثر نجومها الفتية فوق الأرض!
وهتف رجل حديد البصر:ـ إنها قافلة قادمة!ولاح طيف في الأفق البعيد… وشيئاً فشيئاً تألفت صورة لسفن الصحراء.. تنساب كزوارق هادئة باتجاه الضفاف…
وهتفت فتاة مبتهجة:
ـ جاءت فاطمة!
وخشعت القلوب لاسم مضيء لسيدة النساء فاطمة الزهراء.. وهاي ابنتها قادمة تحمل اسمها وقبساً مضيئاً منروحها… وملامح من صورتها المشرقة.. وذكرى لها لكأن الزهراء البتول تقدّمها الى فتيات قم مثالاً ونموذجاً.. مثالاً في الطهر ونموذجاً في الاستقامة.
وبادر الرجل الأشعري ليأخذ بزمام ناقة فاطمة، ليقودها الى منزله.. ودخلت فاطمة المدينة الصغيرة ولتدخل المدينة بوابة جديدة من التاريخ.. لتستحيل الى صدفة تنطوي على لؤلؤة هي درّة من درر الوجود الانساني..
واجتازت الناقة مزارع للخضار لتعبر بعدها النهر المالح وقد نهضت بيوت طينية متواضعة، تجسد معاناة أهلها من قسوة الطبيعة والجفاف، وتعسّف الحكام في أخذ الضرائب..
وعندما حطّت فاطمة رحلها في بيت الرجل الكريم تقاطرت فتيات قم للتبرك بخدمتها.. فتيات صغيرات بعثتهن امهاتهن أو آباؤهن لينهلن الطهر والعفاف والعلم من أهل بيت آتاهم الله العلم وطهرهم تطهيرا.
وشاعت الحياة في المنزل، وتفجرّت ينابيع القرآن والصلاة.. ووصايا الانبياء..
وتألقت سورة مريم.. مريم العذراء البتول… مباركة هي فاطمة ابنة موسى طاهرة هي شقيقة الرضا…واستحالت زاوية في حجرة متوسطة الى محراب ومصلّى.. وبالرغم من عنف الرياح الخريفية في أخريات تشرين فقد كانت كلمات فاطمة تبشر بالربيع القادم من الأفق البعيد البعيد… لقد سمعت عن أبيها قوله:
ـ رجل من أهل قم يدعو الناس الى الحق، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف…
وفيما كانت رياح الخريف تعصف بعنف، والعالم يموج بالفتن والمؤامرات، و «مرو» غارقة في الدسائس، وبغداد في فوضى… جلست فاطمة في محرابها… فى سكينة وطمأنينة.. وكانت روحها المتوهجة بإيمان لانهائي تسطع من عينين نجلاوين… كحورية قدمت من سماوات بعيدة.
جلست فاطمة تحدّث أهل الأرض قبل أن تعود الى أرض الوطن..
هكذا بدت فاطمة بوجهها المضيء يلفّه خمار وردي، ورداء أبيض بلون حمائم السلام..
وفيما كانت «عُليّة» عمّة خليفة «مرو» واخت خليفة «بغداد» تصدح بالغناء.. وبغداد اللعوب لاهية.. بغداد التي نصبت ابن شكلة خليفة.. وحتى لا يكون الرضا خليفة!
جلست فاطمة في المحراب تحدّث:
ـ سمعت فاطمة بنت جعفر الصادق قالت:
سمعت فاطمة بنت محمد الباقر قالت:
سمعت فاطمة بنت علي السجّاد قالت:
سمعت فاطمة بنت الحسين قالت:
سمعت زينب بنت علي قالت:
سمعت فاطمة بنت رسول الله قالت:
سمعت رسول الله يقول: «ألا من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً».
وكانت الكلمات المقدّسة تستحيل الى بذور في الأرض الطيبة التي ستكون «مأوى الفاطميين».
وهكذا كانت فاطمة تستعدّ للرحيل.. تستعدّ لمغادرة الأرض المترعة بالويلات..
لم يبق من عمرها الربيعي سوى أيام معدودة.. كشمعة في أخريات ليل طويل.. كقنديل يرسل آخر حلقات ضوئه الشفاف… كشمس… كقمر.. كنجمة قبغيوم «كانون» تتحشد في السماء، رسمت خلجاناً وشواطىء وبحريات زرقاء وربىً وتلالاً من قطن… وأصبح المشهد السماوي أخاذاً…
وأوت فاطمة الى المحراب.. جسمها النحيل ينوء بحمل الروح المتوهجة بالرحيل.. المبهورة بالسفر الى عوالم زاخرة بالنور.. بالمحبّة.. والسلام…
تريد أن تتخفف من عناصر الأرض.. الأرض المثقلة بالدماء… المنقوعة بالدموع.. تريد الرحيل الى عالم آخر لانكد فيه ولاعناء… إن قوّة ما تشدّها الى الأعالي..
وهوّمت عيناها.. لتنفتحان على عالم لا يراه الانسان إلاّبعد أن يغمض عينيه…
كانت ترتدي حلّة بيضاء بلون الثلوج في القمم.. بلون حمائم السلام..
كانت تحلّق في الأعالي… ورأت نفسها تلج عالماً أخضر.. كل ما فيه بلون الربيع.. وحوريات الجنّة يخطرن بين الأشجار الخالدة.. ورأت نفسها تطوف في عالم شفاف ملوّن.. عالم يزخر بأجنحة الملائكة… مثنى وثلاث ورباع…
ورأت فتاةً ترفل بحلل من استبرق وسندس، تطوف حولها الحوريات… ووجدت نفسها تهفو اليها وتهتف.. آه… يا أمي! خذيني إليك! وراحت تبكي في حضن مفعم برائحة جنّات الفردوس..
وانتبهت فاطمة وكانت قطرات الدموع ماتزال عالقة في الأهداب.. وتمتمت:
ـ آه يا أمي! خذيني اليك..
وكانت السماء قد شرعت تنث مطراً ناعماً هادئاً كدموع فاطمة وهي تبكي بصمت.وفاحت رائحة الأرض المرشوشة بمياه سماوية طاهرة وكانت فاطمة تذوي كشمعة في قلب الظلمات.. ظلمات الأرض المتكاثفة في ليالي أُخريات الخريف..
وأدركت نسوة في المدينة أن فاطمة على وشك الرحيل.. لقد وهن صوتها وهي تخاطب فتاة في عمرها.
ـ أودّ لو اغتسل يا أخيّة.
وهبّت فتاة في العشرين وقد انبعث في قلبها أمل بشفاء فاطمة..
اغتسلت فاطمة.. تطهرّت من أدران الأرض.. وارتدت ثوباً جديداً مضمخاً برائحة الكافور..
وأضاءت ابتسامة ملائكية وجهها كانت تريد أن تكون لحظات الرحيل.. لحظات حبّ لفتيات قم.. هذه المدينة الطيبة.. ولتبقى ذكرى عزيزة…
كل من في المنزل أحسّ أن هذه الحجرة الصغيرة ستشهد لحظة الرحيل..
رحيل الروح الطاهرة.. انطفاء الشموع.. ورحيل النجوم.. ومغيب شمس أضاءت مدينة قم سبعة عشر يوماً.
وأوت فاطمة الى فراشها.. تلك الليلة، يشعُّ من عينيها الرضا.. وبدتا كنافذتين تطلاّن على عالم مفعم بالمحبّة.. بالطمأنينة.. والسلام.. وظنّت فتاة كانت ترافقها في رحلتها من المدينة.. أنّ دماء العافية تعود من جديد.. وان السمّ الذي ديف لها في ساوة قد تبدّدت آثاره..
وبعد مطلع الفجر.. جاء رجال ونساء وأطفال.. جاءوا لعيادة عذراء قم.. ولكن فاطمة كانت قد رحلت بعيداً.. رحلت الى الأعالي الى عوالم مفعمة بالسلام..
لم يجدوا سوى نعشاً ودموعاً كأمطار الخريف .
وبدا رحيل فاطمة في ذلك الصباح الغائم رمزاً لغياب كل الأشياء الملوّنة.. واغتراب الشمس.وسار موكب مهيب، وبدا النعش الابيض حمامة شهيدة..
السماء ما تزال تنثُّ مطراً ناعماً، وقد ظهرت الشمس من وراء الغيوم المتكاثفة باهتة منطفئة.. وبساتين الرمّان تنفض ما تبقى من أوراقها الصفراء المثقلة بنداوة المطر.. ومرّ سربٌ من الطيور المهاجرة، وارتفع خيط من الدخان من وسط مزرعة صغيرة للخضار، وشمّ المشيعون رائحة طيبة كأنها قادمة من جنات الفردوس.
الموكب الذي تؤلف الفتيات والأمهات القسم الاعظم منه يتجه صوب «بابلان» على ضفاف النهر من المكان الذي عبرت منه الفتاة المدينة..
فاحت رائحة الارض النديّة حيث حط النعش
وفيما كانت السماء تنث مطرها الطاهر ورائحة التراب المعطور تصّاعد وتملأ الفضاء..
كان نعشاً خفيفاً.. طاهراً.. يشف عنه شذى الروح الطاهرة..
مباركة هي فاطمة.. مباركة هي الفتاة العذراء التي هبّت لنجدة أخيها فاغتالها الزمان والقدر.. وطاهرة هي عذراء قم…
وفاحت رائحة التراب المضمخ بالمطر الناعم وهو ينثال حيث رقدت الفتاة الطاهرة الى يوم البعث…
وارتفعت كومة تراب طيّب شبرين.. وتحلّقت أمّهات وفتيات… وكانت العذارى يمسسن التراب المضمخ برائحه جنّات الفردوس بمناديل بيضاء لتكون مباركة طاهرة… والأمهات يذرفن دموعاً صامتة كمطر خريفي…
كتب رائعة ومكتبة اروع