مسألة الإيمان والأزمة الطائفية – الحالة العراقية نموذجاً
عندما أطلق الخوارج صيحتهم المدوّية “لا حكم إلا لله” فانهم في حقيقة الامر قد احدثوا الزلزال الذي سوف يهزّ العقيدة الإسلامية في الصميم وأعني مسألة الايمان.
ولم يكن المسار الحضاري للإسلام يوقد شمعته الاربعين حتى ظهرت امواج بشرية تحاول استباحة العالم الاسلامي وصدرت فتوى تكفير لأول الناس ايماناً بالرسالة.
ان المقاييس التي طرحها الخوارج قادت الى سلسلة من الانهيارات الفكرية وكان من الصعب ايقافها ذلك ان الظروف الاجتماعية والسياسية ادّت الى تراجع كبير وخطير للمبادئ الاسلامية او الى ما يمكن ان يطلق عليه وتسميته بالبدايات الخلاقة التي احدثتها الشرارة الروحية.
فلقد كان لتصدي الامويين المبكر لتيار الخوارج آثاراً مخربة في احداث حالة من الفوضى الفكرية.
فاذا كان الخوارج قد استخدموا اساليب ارهابية وقتلوا احد الصحابة وبقروا زوجته الحامل فان من تصدّى لهم فيما بعد هم الامويين وهم لا يقلون قسوة عن خصومهم من الخوارج اضافة الى انهم كانوا يمارسون التخريب الفكري الممنهج ولعل ذلك هو الذي دعا الامام علي الى ان يقترح عدم قتال الخوارج بعد الاشارة الى مواجهة النظام الاموي.
ومن خلال بعض الاحاديث النبوية يمكن التقاط اشارات حول ظهور تيار عنيف يتمسك بقشور الاسلام لا يتجاوزها ومن ثم يندفع كالسيل نحو التخريب الشامل للحياة.
ونكتفي بحديث واحد فقط وهو قوله [ص]: “يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم.
وسنجد حديثاً يدعو الى التأمل برواية، الامام علي [ع] عن النبي [ص]: “يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البريّة يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم، لا يجاوز ايمانهم حناجرهم.
وتتضمن الجملة الاخيرة من الحديث دعوة لتصفيتهم يعني غياب امكانية الحوار والتفاهم معهم [وذلك بعد اخلالهم بأمن المجتمع وانتهاك حقوقه].
وملامح هذا التيار باختصار:
ــ الفظاظة والقسوة [ومردها الى ان الايمان لا يتجاوز حناجرهم].
ــ روح العدوان المتأصّلة.
ــ السطحية في التفكير بل غياب عملية التفكير [يقرأون القران لا يتجاوز حناجرهم].
ــ التمسك بالقشور فقط [غياب الاصالة في التفكير].
ــ الاندفاع الاهوج في المواقف [يمرقون كما يمرق السهم].
ــ غياب صوت العقل [سفهاء الاحلام].
ــ استمراريتهم وظهورهم عبر فصول التاريخ وفي المناخات المساعدة.
ــ يمثلون الصورة المعكوسة والنقيض للمنابع الصافية لفكر اهل البيت [ع].
ــ انعدام الروح الانسانية [وهذا يمثل خلاصة شخصيتهم].
ــ سهولة انقيادهم من قبل جهات تستغلهم لتحقيق أهداف محددة.
ونحاول هنا ان نعود الى الجزء الاخير من الحديث النبوي الشريف: “لا يجاوز ايمانهم حناجرهم” لنجعل منه المدخل الثاني للموضوع لنتساءل عن مسألة الايمان: ان قناعتي في هذه المسألة هي ان الايمان ينهض على قدمين الاعتقاد بالله الخالق الرحمن الرحيم والعمل الصالح اضافة الى الاعتقاد باليوم الاخر ــ هذا الاعتقاد يجب ان يكون راسخاً ووجدانياً ويفجر النبع الانساني في الاعماق [الذين آمنوا وعملوا الصالحات].
من هنا ارى ان الايمان يقاس بالمضمون والمخزون الانساني في النفس جاء في الرسالة القشيرية .
قال الاستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو العلم فكل علم هو معرفة وكل معرفة علم وكل عالم بالله تعالى عارف وكل عارف عالم.
المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدّق الله تعالى في معاملته ثم تنقى عن اخلاقه الرديئة وآفاته.
المعرفة توجب السكينة في القلب كما ان العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته. [الرسالة القشيرية].
جاء في نهج البلاغة: “اول الدين معرفته [الله] وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له.
وجاء في الاثر: “العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء”.
هل يمكننا ان الاقتراب من الدائرة اكثر اعني الاقتراب من الإيمان كفعل وكتحول ونحاول فهم ما يعنيه مصعب بن عمير عندما نفض يديه من كل شيء من اجل ما اعطاه محمد [ص].
ماذا منحك محمد [ص] لكي تتخلى عن الثروة وحياة الرغد؟
ــ محمد [ص] منحني السلام.
لماذا نهى النبي [ص] عن قتل ابي البختري بن هشام الذي سجلت له مواقف انسانية ابان فترة الحصار في شعب ابي طالب [معركة بدر الكبرى].
جاء في الاثر: هل الدين الا الحب. [الامام الباقر ع].
وقال الشاعر: ما دام قلبك فيه رحمة لأخ عان / فأنت امرءٌ في قلبك الله.
وفي منهج النبي [ص] التأكيدي في بعض الاحاديث قال النبي [ص]: “أي عرى الايمان اوثق؟ ويأتي الجواب منه [ص]: الحب في الله.
ولا ينبغي لنا ان نتراجع خطوة الى الوراء امام ظاهرة الانتحار وقتل الآخرين لان قتل الأبرياء من فقراء واطفال ونساء لا يمكن تبريره بفعل يشبه في ظاهره الفعل الاستشهادي. [حوادث التفجير في بغداد].
وقد تحدث القرآن مبكراً جداً في الفترة المكية تحديداً وقبل تشكل المجتمع المدني [المدينة المنورة] عن الذين في قلوبهم مرض فكما ان القلب الذي هو مركز الايمان فانه ايضاً عرضة للمرض والاشارة هذه في سورة العنكبوت وكانت في مكة قبل ظهور تيار النفاق.
وفي كثير من الاحيان بل هو السائد في معظم الظروف ان الانسان يتلقى عقيدته الدينية من الوسط الذي يحيا فيه، فالبشر لا يعيشون حالة حي بن يقظان الذي وجد نفسه في الجزيرة وحيداً.
ولهذا فان معتقدات شخص ما مستمدة في الغالب من المحيط الذي يعيش فيه فهو يتنفس الافكار التي تشكل ثقافة مجتمع ما، يعني انه لا يتلقى العقيدة من القرآن والسنة النبوية.
ولهذا فهو يشبه من هذه الناحية اللغة التي يتحدث بها الانسان لأنه يتلقاها مع اولى رشفات اللبن.
من هنا فان العقيدة الدينية التي تتشكل في محيط منسجم تنتج عن ثقافة منسجمة والعكس صحيح ايضاً فبقدر ما تكون للعقائد الدينية جذور راسخة في العمق فان حالات النزاع الطائفي تتراجع فتكون ظاهرة التعدد المذهبي مدعاة للثراء الفكري والحوار بسبب المشتركات الاساسية التي تكون آصرة جذب وتوحد اقوى من عوامل الطرد والاقصاء.
وقد جاء في الاثر: “الايمان ما وقر في القلب وصدقه العمل”.
فالإيمان ليس قولاً وفعلاً فقط وانما هو ابعد من ذلك ونذكر بالإشارة الى المعرفة والعلم التي تؤدي الى حالة من السكينة وتنامي الحس الانساني.
ولهذا فان ايمان أبي سفيان على سبيل المثال وقد حصل في ظروف معروفة لم يفرز او يؤدي الى تصريح او موقف ينسجم مع ذلك التحول بل العكس في معركة حنين وبدء المباغتة وتصور البعض هزيمة المسلمين قال اعل هبل! وفي خلافة عثمان: فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار وانتقل هذا المسلك الى ابنه معاوية: [حواره مع المغيرة] ثم انتقل الى يزيد [لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل] ولكن هذا الانكار سوف ينتهي فجأة في معاوية الثاني ما يفسر منهج الانبياء في التعامل مع اقوامهم والامل الكبير بإيمانهم او ايمان الاجيال التي تليهم وفي مقابل هذا المسار هناك مسار اخر يبدأ بأبي طالب مؤمن قريش فبالرغم من غياب السند التاريخي حول نطقه بالشهادة بصيغتها التي نطق بها ابو سفيان لكننا نجد اشارات قوية حول ايمانه العميق من خلال اشعاره ومواقفه ودفاعه عن رسالة النبي [ص] هذا الايمان الذي انتقل الى ابنه علي [ع] القائل: “لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً و [اول الدين معرفته] ثم ينتقل الى الحسين [ع] الذي يقول: “كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى نكون الآثار هي التي توصل اليك، عميت عين لا تراك”.
أو “ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟!” وينتقل الى ابنه علي السجاد [ع] ليترك وراءه ميراثاً خالداً في اناشيد الايمان [الصحيفة السجادية] ورسالة الحقوق كاثر نابع من الايمان.
يذكر التاريخ [تاريخ الطبري] ان ابا سفيان التقى هرقل وذلك بعد حرب بدر واحد وكان الاخير يحاول تكوين صورة عن النبي [ص] فكان احد أسئلته: هل يغدر؟ وقد اضطر ابو سفيان الى الاجابة الصادقة: انه لا يغدر ابداً.
وعن الامام [ع]: “لا ايمان لغادر” بينما نرى ابا سفيان وبدل ان يرسل قيمة الفداء لابنه الاسير ينتهك القانون الاخلاقي والديني لمكة التي تمنع اعتراض الحجاج قام ابو سفيان باختطاف شيخ مسلم جاء معتمراَ مقابل اطلاق ابنه الاسير!!
ولهذا لم يحدث التحول الذي حدث في قلب بلال في اعماق ابي سفيان لدى اعلانه الشهادة عشية فتح مكة.
لقد كان في اعماقه شيء لا انساني هو مزيج من الشر والعنصرية والانانية والتعصب ومجموعها عبر عنه القرآن “في قلوبهم مرض”.
ومن الضروري ان نتوقف عند نقطة هامة وهي اعتناق الشخص للفكرة وهي تشبه في طبعها ومراحلها مسألة الايمان انها ايمان بالمعنى العمومي للكلمة.
وقبل الاستطراد في هذه النقطة علينا استعادة ما ذكرنا حول الايمان الذي تسبقه المعرفة والعلم والذي يؤدي الى حالة من السكينة وتنامي الاحاسيس الانسانية [الذين آمنوا وعملوا الصالحات] [وقلبه مطمئن بالإيمان].
عند اعتناق الانسان لفكرة ما ذات طابع ديني خاصة فان ذلك يحدث متزامناً ومواكباً لحالة من الاضطراب العقلي والهياج العاطفي والحماس الشديد والاندفاع.
ولهذا فليس هناك ما هو اخطر من انسان غبي [جاهل] يعتنق فكرة.
اننا نشهد في هكذا حالة نوعاً من الايمان بالغيب وهو لا يعدو في حقيقته ان يكون تهويمات في عالم خارج نطاق الوعي ومساحة خارج نفوذ العقل.
ونذكر هنا بان كل شيء في شخصية الانسان في مرحلة الشباب تكون قد تشكل بطريقة ما من خلال التقاليد والعادات والنظم السياسية والبناء الاجتماعي.
ولهذا فان من غير المنطقي تماماً فصل السياسة عن الدين والدين عن الحياة الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال اننا عندما نقف امام تيار يشبه تيار الخوارج من حيث المسلك فإننا لا نقف امام عقيدة دينية بقدر ما نحن نقف في مواجهة ثقافة انتجت هذا التيار.
ولهذا فان الزرقاوي على سبيل المثال انما هو اعادة انتاج لشخصية ذي الثدية او شخصية اخرى على غرارها من قبيل البربهاري.
ربما من المفيد ان نتحدث عن الموضوع من زاوية اخرى، منطلقين مما ورد في الحديث الشريف: “حدثاء الاسنان”.
يلاحظ ان موجات الارهاب التي اجتاحت العراق [على سبيل المثال] نفذها شبان يعتقدون بانهم سوف يعانقون الحور العين بعد [استشهادهم] او سوف يتناولون غداءهم مع النبي [ص].
تؤكد الدراسات النفسية ان حالات التحول الديني تحدث في الغالب في اوائل البلوغ بين السادسة عشر والثامنة عشر وهي السن الذي تنضج فيه غريزة الجنس نضجاً مفاجئاً، اضافة الى ان ما يحصل من تحول له شبه كبير بالوقوع في الغرام.
ان خيالات المراهقة والميل الى العزلة لدى بعض الشباب يصحبه تحليق في الاوهام على اجنحة الخيال وانها تطورات قد تبدو هادئة لكنها في الحقيقة سلسلة من العمليات قد تؤدي الى ظهور نتيجة مفاجئة كالحب من اول نظرة فيتعلق الشاب بفتاة كونتها اجهزة الخيال في ذهنه فإذا رأى ما يشبه هذه الصورة تعلق بها.
ومن الممكن ان خيال بعض الشباب [وهذا تابع الى نوع المحيط والبيئة والثقافة التي يعيش فيها] قد يجنح الى تصور الحوريات في الجنة وحينئذ ما ان يصادف من يتحدث عن الجنة والطريق اليها اذا به يعتنق فكرة الاستشهاد لتحقيق لقائه بالحور العين.
بعبارة اخرى ان هكذا تحول هو في الحقيقة تصور في العثور على حل لعقدة نفسية اشبه ما تكون بالعثور على مفتاح ناسب فجأة قفلاً قديماً.
وما دمنا وصلنا في الحديث الى العقدة النفسية فلا باس من الاشارة الى وجود حالات مرضية تقود المريض الى العدوان واشير هنا الى ما قاله احد الاطباء النفسانيين في التلفزيون العراقي عن حالة شاب كان يتصور ان والدته تكتب عنه تقارير تؤدي الى اعدامه فقتلها وتحدث الطبيب عن ان صدام مصاب بهذا المرض تجاه الشعب العراقي.
وعادة ما ينزع هؤلاء المصابون بهذه العقدة الى الظهور امام الملأ واجتذاب الانظار بسوء السلوك.
ونحن نتذكر كيف سرّب الزرقاوي مجموعة من الافلام عن نفسه تصوّره كما يحب وهذا ما يفسر سيطرة صدام على التلفزيون واقامة التماثيل والجداريات.
وتصرفاته عندما يشعر بوجود كاميرا [في فترة ما بعد السقوط واثناء المحاكمة].
واسمحوا لي ان استعيد بعض الاسطر من المقدمة لتكون مدخل في الحديث عن الطائفية:
وهي ان الايمان الحقيقي يفرز مشاعر وحدوية وروح اخوية [انما المؤمنون اخوة] ولهذا يجب ان تتركز هذه المشاعر اكثر في الدين الواحد حيث نفترض وجود نزعات اخوية وميول توحدية بسبب المشتركات الاساسية ولذا فان ظهور حالة من الصراع الطائفي يعني انطفاء شعلة الايمان الحقيقي الذي هو جوهر الدين والمذهب. وبسبب هذا الانطفاء تقفر مجموعة من افكار هامشية جداً لتحل محلّ الجوهر الديني وتصبح بعض الامور الجانبية اساسية وجوهرية.
وانطفاء الايمان الحقيقي هو السبب في تراجع الافكار والمشاعر الانسانية وسيطرة الاهواء والانانية والنرجسية.
ويبدو ان علينا ان نذعن بوجود صراع طائفي وصل ذروته في القتل على الهوية وتعددت مشاهد القتل الفظيع ونفذت بطرق وحشية رهيبة.
وانزلق بلد مثل العراق الى مستنقع الاقتتال والاغتيال، يكمن وراءه وفي تصوري فلول البعثيين فهم من وراء بدء هذا الاحتراب فقد بدأ الحديث عن خيانة الشيعة وتعاونهم مع الاحتلال ثم دخلت القاعدة لتعلن تكفيرهم ووجوب قتلهم.
لكن من المنطقي الانتباه الى الجانب الامريكي فقد صدرت منذ البداية اشارات خلال حوادث فبعد قتل عبد المجيد الخوئي بالطريقة المعروفة قال مسؤول امريكي: سوف نستخدم الاساليب القذرة.
وفي مناسبة اخرى ظهر خبير امريكي على مستوى يوحي باسهامه في رسم السياسة الامريكية في العراق قال بالحرف الواحد: سنصنع ظروفاً لا تساعد على قيام حكم اسلامي ولكن المقصود في حقيقة الامر “الحكم الوطني”.
وقد استدرج التيار الصدري مبكراً الى حرب غير متكافئة. كان الخاسر فيها معلوماً منذ البداية.
وسواء كان افتعال هذه الحرب تم بتخطيط بعثي من خلال اللاجئين العراقيين [سوريا ــ الامارات] او داخل اجهزة C.I.A فان القدر المتیقن وجود ادوات ومناخات وارضية مساعدة على نجاح المخطط.
ولكن ما يجدر الانتباه له ان عمليات القتل والذبح وقطع الرؤوس والتي استمرت فترة ليست بالقصيرة ومن جانب واحد اوجدت ردود فعل في الجانب الاخر وظهرت شخصية محسوبة طائفياً على الشيعة بينما هو بعثي ولا يمثل حالة دينية ليقوم بعمليات على نفس النسق، وسرعان ما صعد نجم هذه الشخصية لتصبح في مستوى البطل المنقذ!
وصعود شخصية بهذه المواصفات يصدر اشارة واضحة الى حجم الاضرار التي تعرضت لها مراكز التفكير المنطقي لدى هذه الطائفة.
وبالمقابل فان استمرار احتضان عصابات القتل ومجاميع القاعدة يعطي نفس الاشارات الى ما وصلت اليه مستويات التشنج والقسوة والتي وصلت ذروتها في اعتبار صدام بطلاً سنياً وبعد ذلك شهيداً.
لا توجد بطبيعة الحال صورة واحدة او تفسير واحد لم حدث بعد سقوط النظام بستة اشهر على الاقل ثم تفاقم الظاهرة الى ما وصلت اليه في ذروة الفوضى فهناك قراءات عديدة قد تتقاسم جميعاً تفسير ما جرى ويجري.
ــ ما حصل هو سعي البعثيين للعودة من خلال ابقاء الظروف النفسية بالذات على ما كانت عليه ايام الحكم: رعب خوف ذعر وحالة انسحاق.
ــ ما حصل هو من اجل قطع الحديث عن انسحاب القوات الاجنبية.
ــ ما حصل هو عمليات انتقامية وردود فعل على قانون اجتثاث البعث.
ــ اعتراض على طريقة توزيع الثروة.
ــ ما حصل كان نتيجة لانهيار معادلة سابقة وغياب معادلة مقنعة: سنة حاكمون اصبحوا محكومين محكومون اصبحوا حاكمين.
ــ ما حصل كان قتالاً بالنيابة وتلقين الامريكان درساً بليغاً بعدم تكرار التجربة.
ــ ما حصل يأتي تمهيداً لصعود الدكتاتور المنقذ الرجل القوي الذي يظهر بعد عجز الدولة عن مواجهة الازمات ولا نريد ان نعبر بالمشكلة خارج الحدود لان ذلك يعد هروباً في وضح النهار.
لنتحدث الان عن النتائج القريبة والبعيدة.. وباختصار يمكن الاشارة الى:
1ــ سعي الطرفين في الوصول الى حالة توازن الرعب [اشارة طارق الهاشمي].
2ــ ترسب مشاعر مريرة وطاقة سلبية في نفوس الطائفتين سيكون بمثابة مصنع لإنتاج واعادة انتاج شخصيات دموية.
3ــ تحول العصابات في الجانبين الى عبء كبير سوف يربك الوضع الاجتماعي الى فترة ليست بالقصيرة وتتحول هذه العصابات الى تنظيمات شبيهة بالمافيا يصعب القضاء عليها لأنها قد تعلمت كيف تمدّ اذرعها الى القضاء والحكومة والبرلمان. ومن الثابت ان ممارسة القتل لفترة معينة يؤدي الى ظهور حالة مرضية مزمنة تكون ممارسة القتل لديها امراً عادياً تماماً [كانت اجهزة الامن زمن النظام تشرك منتسبيها في حفلات التعذيب لتحطيم ما تبقى من الروح الانسانية].
بثت الفضائيات مشاهد من محاكمة السبعاوي وزير الداخلية لأحد ضباط الامن متهم بأداء الصلاة] [طلب منه ترك الصلاة ومن ثم التوبة بعد بلوغه السبعين!!] صرح حسن العلوي مؤخراً: كان صدام يأمر حتى وزير الخارجية بممارسة التعذيب، لهذا كان لوزير الخارجية غرفة خاصة في المخابرات لممارسة التعذيب. كان صدام يحرص على تلويث المسؤولين.
فالمجموعات التي مارست القتل والقتل المضاد تتحول او تحولت بالفعل الى جيش كبير من القتلة المحترفين الذين يمارسون ابشع انواع القتل والجريمة بدم بارد وبعد حفلة تعذيب وحشي تكشف عن مستويات من السادية المخيفة [في رواية “الوحش البشري” يرصد اميل زولا زعيم المدرسة الواقعية مسار البطل الذي يأبى في بداية أمره مضاجعة امرأة على فراش الزوجية ثم ينتهي الامر وبعد سلسلة من الاخطاء الى ان يمارس الجريمة بشكل منظم وعادي].
ان الخطيئة الاولى تقود الى الثانية ثم الى الثالثة.. الى ان يتحول الانسان الى ذئب بشري [افلاطون: اذا ذاق المرء قطعة من لحم الانسان تحول الى ذئب] [ومن يقتل الناس ظلماً وعدواناً ويذق بلسان وفم دنسين دماء اهله ويشردهم ويقتلهم.. فمن المحتم به الامر الى ان يصبح طاغية ويتحول الى ذئب].
والسؤال الكبير الذي يمكن ان يكون المدخل لاستكشاف حلول للمأزق الراهن هو: هل تحولت الطائفية الى ثقافة؟
الى اين يتجه البلد؟
لأنه ما من دواء الا بعد تشخيص الداء ومستويات الاصابة.
هل نحن مؤهلون لقراءة الواقع قراءة قريبة من الحقيقة؟
ان اول السطور في قراءة موضوعية هو استكشاف افرازات الواقع. ينبغي في حرب طائفية ان ينتج الوسط زعامات متطرفة جداً فقد افرز الوسط السني شخصية دموية ضارية في مستوى حارث الضاري، الذي لا يتورع عن محاولات التنسيق مع اسرائيل وهو لا يتردد في اهدار دماء الشيعة ولهذا فهو مع الزرقاوي في خندق واحد تماماً.
وبسبب استمرار عمليات القتل فقد وصل الوسط الشيعي الى حالة الغضب القصوى وهي حالة اقرب الى الجنون فبرز فجأة شخص دموي يصبح [البطل] والرمز وبسبب هذه الحالة من الغضب الهستيري فقد اهملت تماماً جذور ونشأة البطل البعثية التي لا تمت الى الحالة الدينية اساساً.
وبسبب هذه الحالة الجنونية نرى ما آل اليه التيار الصدري.
من المنطقي في ظل هكذا ظروف ان يستمر انتاج شخصيات متطرفة ودموية ولكن لا توجد ثمة مؤشرات على ذلك بل العكس لقد خبا بريق هذه الشخصيات في الجانبين، واختفى وجود ما عرف بـ “أبو درع” وانتهى دوره تماماً فالمثقف الشيعي الذي افتخر بزرقاوي الشيعة في عمق الازمة يخجل الان من تكرار ذلك وسيكون مآل هذه الرموز التي ظهرت بسبب ظروف استثنائية الطرد من الضمير الشيعي والسقوط من الذاكرة.
وفي الجانب الآخر انتهى تأثير بعض الرموز واهملت تصريحاتها تماماً.
وعندما حاول احدهم التنسيق مع منظمة مجاهدي خلق جاءته التحذيرات الشديدة من نفس الوسط السني الذي يدعي تمثيله. اضافة الى فشل مؤتمر اهل العراق في تركيا ولا ننسى الاشارة الى المؤتمر الفقهي السني في عمّان الذي عدّ ايجابياً عقلانياً ومؤشراً على عودة الوعي.
وفي الوسط الشيعي تراجعت بعض الرموز جماهيرياً حتى باتت لا تلقي خطاباً الا في ظلال مناسبة شعبية لمعرفتها بانها لا تستطيع حشد الا مجموعات محدودة منتفعة من وجودها / كما لم يجرؤ التيار مثلاً على اعلان العصيان المدني واتجه الى الدعوة الى مظاهرات سلمية في مناسبة لا يعترض عليها احد.
ان الخطر ليس مما يحصل على السطح الان من عمليات قتل فخيوطها الخارجية باتت معروفة ان الخطر الحقيقي يكمن عندما يصدّق المجتمع وخاصة النخبة المثقفة بان ما يجري هو احتراب طائفي.
الا ان هذا لا يعني زوال الخطر ذلك ان بذور الشيطان الطائفي ما تزال غافية في تربة تنطوي على عوامل الانبات ولهذا يستلزم التفكير بحلول سريعة من حمى المرض الطائفي الذي نجمت عنه خسائر لا تعوض في العقل العراقي والى جانب ذلك وضع خطط بعيدة المدى واستراتيجية للحؤول دون انفجار الدمامل في المستقبل فالوقاية خير من العلاج كما يقولون.
كما ان خلق ثقافة طرد للطائفية امر هام على جميع المستويات وعلى ابعد المديات.
لا ينكر احد ما للبطالة والانهيار المفاجئ للمؤسسات والشركات والمصانع والمعامل من دور في تقوية الجماعات المسلحة في الجانبين.
ولذا فان الاجراءات على الصعيد الامني والاقتصادي في اعادة حالة التوازن والشعور بالأمن الغذائي امر يدخل ضمن مهمات الحكومة واجهزة الدولة.
ما يهمنا هنا التعامل مع المأزق الطائفي من زاوية ثقافية او الاهتمام فقط بالبعد الثقافي من ملف الازمة.
ومن الممكن الاتفاق او الالتقاء على ان دور المثقف هو في اعتباره حلقة الربط بين السلطة والشعب بشرط بقائه في منتصف المعادلة تماماً حيث دوره الاساس يكمن في ترشيد حركة الناس في اية خطوة نحو الاصلاح الاجتماعي.
ان قرب المثقف من الواقع يؤهله الى قراءة موضوعية شرط شعوره بالمسؤولية وابتعاده عن الاحكام المسبقة والمصادرات كما انه يفقد وزنه النوعي في دولة لا تعيش حالة المؤسسات ويتحول المثقف الى خطر في حالة انحيازه للسلطة وحينئذ تتحول سكين المطبخ الى اداة للجريمة.
يجب ان نعترف انه لا يوجد شعب من دون قيم ايجابية او سلبية ومن هنا فان اول ما يتوجب القيام به هو التأسيس للغة مشتركة حتى يمكن الاعداد الى ارضية صلبة للحوار والتفاهم وهنا يأتي دور المثقف.
[جاء في الاساطير العراقية ان اهل بابل القديمة ارادوا بناء برج لبلوغ السماء فغضبت الالهة عليهم وبذرت بينهم الشقاق بإدخال تعددية الالسن ولم يعد التفاهم بينهم ممكناً فتخاصموا وتفرقوا].برج بابل دلالة على الفوضى والضياع التي تصيب الشعوب جرّاء غياب لغة الحوار.
الثقافة الاسلامية تنطوي على مضمون اخلاقي كبير في حب الخير للإنسانية. ولذا فان الكراهية والحقد والطاقة السلبية ازاء الاخر مهما يكن غير نابعة من صميم القيم الاسلامية حتى قيم الجهاد هي قيم دفاعية اساساً ليس فيها روح عدوانية [فتح مكة نموذجاً].
ولهذا ينبغي تسمية الاشياء بأسمائها الحقيقية والا تخدعنا المظاهر والشعارات واللافتات والازياء فالذين يتحدثون مثلاً باسم القيم الاسلامية ثم نراهم يتهافتون على المناصب والاموال انما يتبنون قيم اجتماعية نابعة من ثقافة ليست من الاسلام في شيء لان كل واقع اجتماعي هو قيمة ثقافية خرجت الى حيز التنفيذ.
اننا بحاجة الى الوعي ولكن الوعي ليس الا حصيلة للثقافة، وعندما نرى بلداً يمر بأزمة فهو نتيجة لامتهان المثقف من قبل السلطة ومن قبل المجتمع [وصل امتهان المعلم ادنى مستوى بعد الحصار ثم تلاه الاستاذ الجامعي الذي لم يستعد احترامه وقيمته حتى الان].
ان اية خطوات للإصلاح يجب ان يواكبها ويعقبها الى مديات بعيدة جهد اخلاقي وتربوي مستمرين وهو جهد ثقافي باعتبار ان الثقافة هي فكر نابض بالحياة وغير قابل للنسيان.
ولهذا تمكنت المانيا من اعادة بناء ما دمرته الحرب بسرعة لان هناك اشياء لم تهدمها الحرب وهي ثقافة المجتمع الالماني وقيمه الاجتماعية ما حصل في العراق هو تدمير للثقافة ونجم عن ذلك اننا فقدنا التعريفات الصحيحة للمفاهيم ومداليلها والأخطر من ذلك اكتساب تلك المفاهيم تعاريف مشوهة ومقلوبة.
عندما لا تدفع فضيحة سرقة او اختلاس لدى مسؤول في الدولة الى الشعور بالعار وتقديم الاستقالة كما يحصل في بلدان اخرى يعني ان هناك ثقافة تسوغ للاختلاس والخيانة وحتى المتاجرة بالثروات الوطنية والمغامرة بمصير الوطن.
لهذا نعيد التأكيد على لغة الحوار الواحدة والبدء بالحوار تحت كل الظروف لان الحوار هو الخيار الوحيد حتى اذا لم يسفر عن نتائج منظورة لأنه يحرك المناخ الثقافي بما يوفر اسباب تداوم الحياة الاجتماعية ونحاول هنا الاشارة فقط الى ما يمكن فعله في هذا المضمار بشرط تفعيل وزارة الثقافة وتامين استقلالها عن الاتجاهات الحزبية وتخصيص ميزانية تقترب من ميزانية وزارة الدفاع والداخلية.
خطوات باختصار
ــ التثقيف على الانتماء الانساني ومحاربة الجنوح القومي العنصري الذي يتجاوز حالة الاعتزاز بالأصل الى الشعور بالفوقية والتعالي.
ــ التشجيع على الفنون الجميلة والتركيز على المهرجانات الشعرية واقامة المسابقات الادبية في جميع المدن العراقية وانتخاب موضوعات انسانية تعزز من روح الاخوة والتعارف والحوار.
ــ انشاء مراكز ثقافية تؤدي دور التقريب وتفعيل حركة اصدار الكتب وبخاصة الكراسات التي تقوم بعمل الكشاف الضوئي.
ــ فصل العقائد عن التاريخ واعادة رسم الرموز الدينية فعلى سبيل المثال ان الامام احمد بن حنبل في القرن السابع الهجري هو غير الشخصية التاريخية التي عاشت في منتصف القرن الثالث الهجري ناهيك عنه بعد ألف عام ومن المؤكد ان الخيال الشعبي السني يرسم صورة لابي حنيفة وكأنه من مواليد الاعظمية، كما ان الخيال الشعبي يرسم صورة للإمام موسى بن جعفر وكأنه من ابناء مدينة الكاظمية وهكذا بالنسبة للشيخ معروف والشيخ عبد القادر الكيلاني.
ــ انتهاج سياسة الدمج الطائفي بمختلف الوسائل والأساليب لنتصور ان عشرة اطفال من الكاظمية ينقلون ليعيشوا في الاعظمية وبالعكس من المؤكد اننا سنراهم في مرحلة الشباب في موقعين غير منسجمين مع انتمائهم التاريخي سنرى اطفال الاعظمية شباناً في مواكب الزنجيل ونرى اطفال الكاظمية شباناً في حلقات الذكر وفي احتفالات المولد هذا على سبيل حسن الظن طبعاً.
وسياسة الدمج الطائفي ستكون ردّاً على ما قام به الارهاب من اعمال ادت الى هجرات بين المدن وبين الاحياء داخل المدينة الواحدة وتعتبر اكبر انجاز حققه الذين يريدون التمهيد لتقسيم الوطن الواحد.
وآليات هذه السياسة متشعبة وكثير من خلال توزيع الاراضي بطريقة تحقق ذلك، وفي البعثات الدراسية والفرات المدرسية وتوزيع العملية التعليمية والتربوية وترشيدها بالاتجاه الذي يحقق الهدف المنشود [وذلك من خلال استراتيجية مدروسة في التعيينات على سبيل المثال].
ــ التأسيس لمفهوم جديد عن الايمان ينطوي على دلالة واحدة فقط بحيث يكون مرادفاً للإنسانية والمحبة والخير والجمال وربطه الابدي بالعمل الصالح.
وبالعكس لا تكون للطائفية سوى دلالات على الشرك والوثنية والعنصرية وكل الحالات اللاإنسانية.
ــ تقديم ابطال انسانيين ليكونوا مصدراً للإلهام وارساء مقاييس لا تجعل من الزرقاوي بطلاً ولا من أبو درع بل وجعلهما متساويين ومتشابهين من خلال توحد المضمون اللاأخلاقي لديهما وتشابه البناء النفسي في شخصيتهما.
ــ اسناد دور اساسي لوزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي.
ان تغيير المناهج الدراسية في كافة المراحل التعليمية والعملية في ضوء ما ورد آنفاً سوف يكفل على المدى البعيد ميلاد حالة من الانسجام والتعايش الاخوي بين جميع شرائح المجتمع العراقي.
وهذا تأويل رؤياي