النمل
جالساً على الرصيف كان .. على قارعة الطريق، في تلك الظهيرة .. حائراً لا يدري أن يذهب! هكذا أمسى غريباً في وطنه .. يشعر بالبرد رغم حرارة الصيف، وانكماش الظلال.
جالساً كان غير أن حرارة الصيف لم تدفع به للاسترخاء لأن حالة من التحفز بعثت روح الاستنفار في كل خلاياه ..
منظره يوحي بأنه متسكع دفعته شمس الصيف اللاهبة إلى ظل لجدار صخري قاس.
الغربة الحقيقية ليست في التغرّب عن الوطن وإن تزامنت مع هذه الظاهرة .. إنها تكمن في تلك القطيعة بين ما يموج في باطن الإنسان وأعماقه الزاخرة، وبين ما يحيطه في العالم الخارجي، بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون ..
تلك هي محنة جيله في السبعينات .. أية داهية دفعت بهذا الوطن الدافئ إلى هاوية الجحيم؟
كانت الدقائق تمر أمام عينيه كقطيع من الخراف يقدّم للذبح، كل شيء في عينيه بدا كابياً، وقد فقد المستقبل لونه الأخضر الجميل..
هذا العالم يعجّ بالشرور .. وتطلّع إلى السماء الزرقاء .. هناك في الأعالي يكمن عالمنا المنشود!
ولكن هذا الميل الغريزي .. هذا البحث عن الحياة الكريمة .. وهل يمكن أن يكون مجرّد أمل خادع أو سراب؟!
هل يعقل أن يكون هذا الكفاح المرير للإنسانية وهذه الدموع والدماء من أجل شيء لا وجود له إلا في الخيال الإنساني والأحلام؟
لماذا يفكر بهذه الطريقة؟ لماذا يتصوّر نفسه وقد شاخ حتى بلغ من العمر أكثر من ألف عام .. رغم أنه في مقتبل الشباب؟
ظهرت قرب حذائه الكتاني نملة .. ظهرت فجأة هكذا .. لا يدري من أين جاءت وإلى أين تذهب .. تنوء بحمل حبة قمح .. كانت تجرّها أو تدفعها بعناء وربما توقفت لتدور حولها ثم تقبض عليها بمجسّاتها ..
كانت معاناة كاملة وحقيقية .. كلنها تفعل ذلك فيما يبدو بأمل .. هناك إضرار عجيب يدفعها إلى مواصلة عملها الشاق في ذلك الحرّ اللاهب ..
وصلت النملة شجيرة شوك كانت قد انبثقت من قلب الأسفلت الذي يغطي الرصيف ..
توقفت النملة في الظل لحظات فقط، دارت حول الحية وتوقفت عند زاوية منها .. وتقلقلت الحبّة ..
في تلك اللحظات مرف طفل بخفة .. في الحقيقة كانت طفلة عرف ذلك من نوع الحذاء وشكله ..
القدم الصغيرة ولحسن الحظ مرّت بخفة من فوق النملة .. لا يدري أحد فيما إذا كانت النملة تدرك الخطر في هذه الأرصفة أم لا؟ إنها منهمكة بعملها بإرادة عجيبة وإصرار .. وأمل.
تذكر كلمات الرحيل الذي يريد إحراق بيوت النمل[1] ..
هل حقاً إننا نشبه النمل؟! تساءل في نفسه .. كانت النملة قد اجتازت الشجرة الشائكة .. لكنها لم تزل تدب ببطء وعناء فوق أسفلت الرصيف، تنوء بقمحها كجنوبي دفعه التشرد والجوع للعمل ف سوق الشورجه! كان غارقاً في تأملاته .. لم ينتبه إلى الخطى الثقيلة القادمة ..
خطى «بسطال» ثقيل من النوع الذي يلبسه رجال الشرطة ..
كان المشهد سريعاً .. خاطفاً .. بدأ وانتهى بلحظة واحدة .. عندما داس الحذاء القاسي على النملة المسكينة .. كاد يهب ليهوي بقبضته المتشنجة على رأس ذلك الشرطي الفارغ .. لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ..
النملة تحتضر .. أطرافها ترتعش .. وقد تدحرجت حبة القمح مسافة شبر وهكذا سيكون مصيرنا؟ هل نمت في الأرصفة .. على قارعة الطريق؟
كان منظر النملة التي فقدت الحراك تماماً، مأساة كاملة .. راح ينظر إليها كما لو ينظر إلى مصيره الفجيع وقد تجسد أمامه.
فجأة ظهرت نملة أخرى تحث الخطى في ذاك المسار .. توقفت عند النملة التي هدأت تماماً، وسرعان ما غابت بين أعشاب نبتت عند حافة الرصيف .. بعد أن راحت تجرُّ حبة القمح في ذات الطريق.
نهض من مكانه هو الآخر ليتابع مساره إلى المدينة.
[1] في اجتماع لمجلس قيادة الثورة قال صدام عشية إعدام الشهيد الشيخ عارف البصري ورفاقه: هؤلاء (شباب الحركة الإسلامية) مثل النمل ينتشرون في كل مكان ولا ينفع معهم هدم البيوت .. الحرق وحده ينفع!